الدكتور خالد عبدالقوى يتحدث عن رسول الإنسانية

الدكتور خالد عبدالقوى يتحدث عن رسول الإنسانية

بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى الرئيس التنفيذي للأكاديمية الملكية للأمم المتحدة
ليس من السهل على الباحث أن يُحيط قلمُه بكلِّ ما يحتويه فِكره، وتصعُب إحاطة القلم بمكنون الفِكر كلما تناوَل الباحث موضوعًا عامًّا تتشعَّب فيه نواحي الأفكار، وتَتناثر في أطوائه الحقائق، ولست أُخفِي عنك أنه أسهَل عليَّ أن تُطالبني بوضع الأسد في زجاجة، من أن تُطالبني بأن يُحيط قلمي بكل ما في فِكري عن السلام الذي حقَّقه نبيُّ الإسلام، ولن أترُك نفسي، وأترُكك معي في هذا البحر المتلاطِم، كلما أراد واردُه أن يشرب تَدافَعت الأمواج وتلاحقت، فإن شاء شرب من أقرب طريق، وإلا فسيظل صاديًا مكتويًا بأُوَارِ الظمأ، ما دام ينتظِر استقرار الأمواج، كلا، لن أترُكك معي في هذا البحر الغامر، وسنشرب – إن شاء الله – حتى نَرتوي، قانعين من الطريق بالتي هي أقرب، وإلا غرِق البحث والباحث جميعًا.

 

 

 

 

 

 

لعلَّك ما نسيتَ بعدُ حالَ المؤمنين في مكة قبل الهجرة، أيامَ قام أعداء الله على كثرتهم يُجنِّدون الدنيا لحربهم، وهم قلة عَزْلاء، لا تملِك إلا اليقينَ الراسي، والإيمان العميق، الإيمان الذي يملِك على المرء نفسَه، ويَسمو به فوق شهوات الحياة، والذي به يستطيع صاحبُه أن يدُكَّ الرواسي، وأن يُحرِّك شُمَّ الجبال من أماكنها، وكانوا يملِكون مع هذا الإيمانِ عُدةً أخرى من الصبر، والموادَعة، وصنوف التضحية، غير ضعفاء ولا مستكينين، فلما هاجروا من مكة، كانت لهم بالمدينة سياسةٌ رسَمها نبي الإسلام، فألقتْ النور على الطريق السَّوي الذي يَسير فيه المسلمون، ويقودهم نبيُّهم إلى دار السلام، ولقد تَحدَّدت هذه السياسة بأعمال النبي، وبصفاته وبخُطبه، وبدستوره كتاب الله المنزَّل عليه، وسوف أحدِّثك عن أهداف هذه السياسة بما ينقع غُلَّتَك، ويُلقي على حرِّ نفسك الظلالَ، ولكن أنظرني حتى أستعرِض معك الخطوط الأولى لهذه السياسة؛ عسى أن يكون فيها إرهاص لما سينجَلي بعدُ من أهداف.
بدأ الخط الأول من هذه السياسة بخُطبة نبي الإسلام الأولى في المدينة، وفيها يقول:
((من استطاع أن يقي وجْهه النارَ ولو بشِقة من تَمر، فليفعل، ومن لم يجد، فبكلمة طيبة؛ فإن بها تُجزى الحسنة عشر أمثالها))، وفي خطبته الثانية وضَع الأساس لبناء المجتمع الفاضل الذي يريده الإسلام فقال: ((اعبُدوا الله ولا تشرِكوا به شيئًا، واتَّقوه حق تُقاته، واصدُقوا الله صالِح ما تقولون، وتَحابّوا برُوح الله بينكم، إن الله يغضب أن يُنكَث عهده)).

 

 

 

 

 

على هذا الأساس تَعاقدت الأيدي، وتَوثَّقت القلوب، وتَواكَبت جموع المسلمين في أرجاء المدينة كالنجوم اللامعة تَنتثِر واحدة واحدة، وكلها مضيء مشرِق، ولكن تَجمَعها السماء فتَقرُّ كل نجمة في فَلَكها تعمل للخير لا تَبغي سواه، وكما لم تفكِّر هذه السماء في أن تُطلِق نجومها على الكون فتَصعَقه، كذلك لم يفكِّر محمد -صلى الله عليه وسلم- في أن يُطلِق أتباعه على المخالفين فيُحرقوهم بالحرب والدماء، نعم، لقد عقَد محمد -صلى الله عليه وسلم- بَيعة العقبة الكبرى لحرب الأحمر والأسود من الناس، ولا شكَّ أن قريشًا كانت أول من يتَّجِه إليهم نظرُه ونظر أصحابه، مما فَطِنت له قريش بُكْرةَ العقبة؛ فبدَّد الفزعُ عقولَها، وراحت تسأل الأوس والخزرج عنه، ولقد خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد سنة من مَقدِمه إلى المدينة، وسار إلى غزوة الأبْواء؛ يُريد قريشًا وبني ضمرة، فلم يلقَ قريشًا وحالفتْه بنو ضَمْرَة، وخرج بعد شهر من ذلك على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى بواط يريد قافلة يَقودها أمية بن خلف، فلم يُدرِكها؛ لأنها اتَّخذت طريقًا غير الطريق المعبَّد للقوافل.

 

 

 

 

 

وبعد ثلاثة أشهر من ذلك التاريخ خرج في أكثر من مائتين من المسلمين، حتى نزل العشيرة من بطن يَنبع، فأقام بها أكثر من ثلاثين يومًا يَنتظر قافلة من قريش يقودها أبو سفيان ففاتته، وكسَب من رحلته هذه أن وادَع بني مدلج، وحلفاءهم من بني ضمرة، هذا عدا ما قامت به بعض السَّرايا قبل ذلك، كسريَّة حمزة بن عبدالمطلب، وسرية عبيدة بن الحارث، وسَرية سعد بن أبي وقاص؛ أمَّا سرية حمزة، فكانت في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، وأما سَريَّة عبيدة، فكانت في ستين راكبًا من المهاجرين، وأما سرية سعد، فكانت في عشرين راكبًا من المهاجرين، أفلا يكون خروج محمد -صلى الله عليه وسلم- بنفسه تارة، وإرساله هذه السرايا تارة أخرى – دليلاً على أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا يُبيِّتون الانتقام من قريش ومبادأتها بالعداوة والحرب أولاً؟ ففيمَ كانت هذه السرايا؟ وما غايتها؟ لا، وإني لذَاكِر لك فيمَ كانت هذه السرايا، ومفصِّل لك غايتها، وسوف لا تَجد فيما أقول إلا فخرًا لدينك، وراحةً لضميرك.
أما إنهم بهذه السرايا التي اشترَك فيها المهاجرون وحدهم بعد ستة أشهر من مُقامهم بالمدينة كانوا يقصِدون حرب قريش وغزو قوافلها، فهذا ما يقف العقل منه موقفَ الشكِّ الطويل، وإلا فهل كانت سَرية تَعداد رجالها عشرون أو ستون أو فوق ذلك قليلاً تستطيع أن تَشُنَّ حربًا أو تَنهَب قافلة؟ أفلم يكن القائمون على حماية القوافل أضعافَ أعداد هذه السرايا مجتمعة؟ ومهما يكن من بأس حمزة ومَن بعده ممن كانوا يَرأَسون سرايا المهاجرين، فإن عُدة من معهم لم تكن لتشجِّعهم على الحرب؛ مما جعلهم يَعودون من هذه السرايا كلها دون قتال، هذا إلى أن المسلمين كانوا يعلمون أنَّ بيعة العقبة الكبرى كانت بيعة دفاعية، ولم تكن بَيعة هجومية، كانت بيعة تعهَّد فيها الأوس والخزرج بحماية محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يُعاهِدوه ولا عاهَدوا أحدًا ممن معه على العُدوان، وكأني لا أزال أسمع تَساؤلك – خافتًا – فيمَ كانت هذه السرايا إذًا، وما غايتها؟

 

 

 

 

 

لقد قصد بهذه السرايا إفهام قريش أن للمهاجرين من القوة ما يُخشى بأسُه؛ فيَدفعهم ذلك إلى التفاهم مع المسلمين من أهلهم الذين اضطرُّوا للجلاء عن مكة؛ بسبب ما عانَوا من الأذى والاضطِهاد، تَفاهمًا يقي الطرفين شرور العداوة والبغضاء، ويَكفُل للمسلمين حريَّة الدعوة إلى دينهم، ولأهل مكة سلامة تِجارتهم إلى الشام، ولعلَّ هذا التفاهم يُهيئ للمسلمين حرية الدخول إلى مكة لأداء حَجِّهم، وهيهات أن يَتم التفاهم ما لم تُقدِّر قريش قوة المهاجرين من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- على الترصد لها، وإيصاد طريق التَّجارة في وجْهها، وشَتَّان بين ذلك، وبين إعلان الحرب أو السعي إليها.
لعلي أجَبتُ على تساؤلك الآن دون أن أَسلُك بك مسالك العاطفة، وإن كنت أرى أني أسرَفتُ في دفاعي عن وجهة نظر المسلمين، وليتَهم استطاعوا يومها أن يَحُزوا أعناق القُرشيين، فما كانوا لو فعلوها مُعتَدين، ولكنهم أخرِجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، على أني سأطرُق خطًّا آخر من خطوط السياسة الإسلامية، حين أقول لك: إنه ليس معنى هذا الذي صنَعه المسلمون أن الإسلام يُنكِر القتال دفاعًا عن النفس، ودفاعًا عن العقيدة، كلا، بل إنَّ الإسلام ليَفرِض هذا الدفاع، وإنما معناه أن الإسلام كان يومئذٍ – وسيظل حتى تقوم الساعة – يُنكِر حرب الاعتداء؛ ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]، ولعلَّ أوضح ما نَهتدي به إلى سياسة الإسلام في القتال، ما نزل من الآيات في سرية عبدالله بن جحش الأسدي، فقد بعَثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رجب من السنة الثانية للهجرة ومعه جماعة من المهاجرين، ودفَع إليه كتابًا، وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فيَمضي لما أمره، ولا يستكْره من أصحابه أحدًا، وفتَح عبدالله الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: ((إذا نظرت في كتابي هذا، فامضِ حتى تنزل نَخلة (بين مكة والطائف) فترصَّد بها قريشًا، وتعلَم لنا من أخبارهم))، وعلِم أصحابه بالأمر، فمضوا معه جميعًا حتى نزلوا نخلة، هناك مرَّت بهم عيرٌ لقريش تحمِل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي، وكان يومئذٍ آخر رجب، وذكَر عبدالله بن جحش، ومن معه من المهاجرين ما صنَعتْ قريش بهم، وما حجزت من أموالهم وتَشاوروا، وقال قائلهم: “ما أشقَّ ما نحن فيه، أمامكم أعداؤكم، لئن تركتُموهم الليلة ليَدخُلُنَّ الحرم فليَعتصِمُنَّ به منكم، ولئن قتلتُموهم لتقتُلنَّهم في الشهر الحرام”، واصطرَع في قلوبهم عاملان: عامل الإيمان، وعامل ما عانَوه من الأشجان والآلام والتشريد، وعزَّ عليهم أن يُصدِّقوا أن دينهم الذي أحبُّوه كل هذا الحب يمنعهم من شفاء أنفسهم، ويَكويهم بالجوى والكَبت، وأغلال الحِرمان، فشجَّع بعضهم بعضًا، وأقدَموا على القوم يقتلون منهم ما قدَروا عليه، ورمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فقتَله، وأسَر المسلمون رجلين من قريش، وقَفَل عبدالله بن جحش بالعير والأسيرَين راجعًا إلى المدينة هو وصحْبه، فلما رآهم الرسول قال: ((ما أمرتُكم بقتال في الشهر الحرام))، ووقَف العيرَ والأسيرين، وأبَى أن يأخذ من ذلك شيئًا.

 

 

 

 

 

عندئذٍ أُسقِط في يد عبدالله بن جحش ومَن معه، وقالت اليهود ما قالت في محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه، وإذ ذاك نزَل قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]، وسُرِّي عن المسلمين بهذا البيان القرآني الفاصل، وقبَض محمد -صلى الله عليه وسلم- العير والأسيرين، وإني لواقِف بك عند هذا الدستور الذي وضَّح لنا سياسة القرآن في السلام والقتال: هذه الآية تنتظِم كل ما تَحتويه الحياة من قوة سامية، ومن اتِّجاه نحو الكمال؛ القرآن يُجيب المشركين عن تساؤلهم عن القتال في الشهر الحرام، ويُقِرُّهم على أنه أمر كبير، لكن هناك ما هو أكبر من هذا الأمر؛ فالصدُّ عن سبيل الله والكُفر به أكبرُ من القتال في الشهر الحرام، وفتنة المسلمين عن دينهم وردُّهم عن عقيدتهم بقوة السلاح أكبرُ من القتال في الشهر الحرام، فإذا كانت قريش وكان المشركون يرتكِبون هذه الكبائر كلها مُحتمِين بالشهر الحرام، كان حقًّا على المسلمين أن يردُّوا عن عقيدتهم، وأن يَفتدوا دينهم بنوع الأسلحة التي حارَب بها خصومهم، وإلا كانوا قاعدين عن نصرة دينهم، مُزعزَعين في إيمانهم.
وأراني مدفوعًا إلى أن أحدِّثك حديثًا آخر عن سماحة المسلمين حين منَّ الله عليهم بالنصر في غزوة بدر الكبرى، بعد أن قالت قريش فيهم قولتها، وكادت تُثير عليهم جزيرة العرب كلها، ونَسَبوا إليهم أنهم خرجوا عن تعاليم دينهم، وسَفَكوا الدماء في الشهر الحرام، بعد هذا كله لم تأخذ المسلمين سُكْرةُ النصر، ولا أبطَرَهم الظَّفر، ولكنهم منُّوا على الأسرى بالفداء بعد أن أشار عمر بن الخطاب بقتل هؤلاء الأسرى، فوقَف الرسول بقلبه الكبير، وبصيرته النافذة إلى جانب رأي أبي بكر، فهل علِمت في عصر المدنية والنور دليلاً على سماحة الظافرين؟ وهل حقًّا أن الديمقراطية في أسمى مظاهرها تستطيع أن تَسَعَ أعداءها بهذه الرَّحابة وذلك الصدر الواسع والقلب الكبير؟ لا أظن ذلك؛ واقرأ إن شئتَ تلك المحاكمات الخالدة في جبين الديمقراطية، وكيف أُخذ الأعداء بعد النصر بأقسى ما يؤخذ به أقوام؟

 

 

 

 

 

ولست أذهب بك بعيدًا حين أسوق لك يوم دخول مكة، وقد دخلها الرسول وصحْبه فاتحين، ومصاير أعداء دين الله معلَّقة بكلمة من شفتيه؛ إن شاء أرسَلها موتًا زؤامًا، وإن شاء أرسَلها رحمة وسلامًا، فكانت كلمة محمد – صلى الله عليه وسلم- هي رسالته الكبرى رسالة السلام: (( اذهبوا فأنتم الطُّلقاء)).
على أن تاريخ الإسلام شاهِد عدْل على أنه لم يبدأ حربًا ولم يَشُنَّ قتالاً، وإنما خضَّب أعداؤه الأرض بالدماء باسم الحضارة والعمران، ولا تزال هذه الدماء قانية تغمُر وجه الأرض من هول الحرب القريبة المنصرِمة، وما تزال أسلحة الفَتْك والدمار يبتكِرها العقلُ الغربي باسم العِلم والنظام، فما هذا العِلم؟ وما هذا النظام؟ الذي يدُكُّ صروح تلك الحضارة الشامخة، ويُقوِّض بناء قرون وأجيال في ساعة من ليل أو في ساعة من نهار.
ألا إن كلمة السلام ستظلُّ حُلوة رقراقة؛ ولكنها كلمة تُلقَى كلما تكاثرت جماجم القتلى وأشلاء المحاربين، فإذا أقبلت تتفيَّأ ظِلالَها، وجدتَ معناها بعيد المنال، وسيَظل بعيد المنال، حتى يَفيءَ القوم إلى مبادئ الإسلام، وعندئذٍ يَنعمون بالسلام.
[cov2019]