بين ليبرالية القيم وليبرالية المؤسسات

بين ليبرالية القيم وليبرالية المؤسسات

 

المقاربة المؤسسية الإجرائية لليبرالية لم تنجح في تجنيب المجتمعات الأوروبية خطرَ النزعات الفاشية والنازية بين الحربين.

التأكيد على الأبعاد الأخلاقية والقيمية في الواقع الاجتماعي الحي، ضمن سياق ليبرالي تُحترم فيه حريةُ الإنسان وحقوقُه الأساسية.
انحسار المدونة القيمية المرتبطة تاريخياً بالتراث الديني وانهيار الأيديولوجيات الكبرى التي عوّضت في العصور الحديثة هذه التقاليد الأخلاقية.

ضرورة إعادة التفكير في الأسس المعيارية والقيمية للمنظومة الليبرالية في ما وراء محدداتها الإجرائية والتنظيمية التي لا خلاف حولها ولا بديل عنها.

الليبرالية التي كان يُعتقد أنها ستسود العالَم بعد نهاية الحرب الباردة، تعاني اليوم من مصاعب وإشكالات عميقة حتى في مجالها الأصلي بالغرب.

مهّدت الإجرائية الليبرالية الطريق لأنظمة استبدادية اشتراكية واليوم هي مسؤولة عن الليبراليات الشعبوية السلطوية التي تتزايد في الديمقراطيات الغربية.

الفكر الليبرالي في أساسه أهمل هذه الأبعاد الأخلاقية للقيم الدينية للمذهب الإصلاحي المسيحي من منظور اقتصادي قانوني صرف للنظام الاجتماعي.
***

تقديم الكاتب الصحفي / أشرف السعدني

«يوشع شرنيس» فيلسوف ومفكر سياسي أميركي شاب نشر مؤخراً كتاباً هاماً بالإنجليزية بعنوان «الليبرالية في أوقاتها المظلمة.. الغائية الليبرالية في القرن العشرين» (Liberalism in Dark Times: The Liberal Ethos in the Twentieth Century).

وقد خصصه لنقد ليبرالية القرن العشرين، التي هيمنت على النصف الثاني من القرن الماضي، وظهر اليوم ما يواجهها من مأزق بنيوي حاد تجسدَ في الأزمة المالية سنة 2008 وبعدها صعود الشعبويات اليمينية على أنقاض الأحزاب الليبرالية العريقة.

 

ينطلق شرنيس من ملاحظة تركيز الاتجاه الليبرالي الكلاسيكي على النظم المؤسسية وعلى المبادئ العامة للعدالة والشرعية، مع إهمال المنطلقات الأخلاقية الجوهرية في النظام السياسي الاجتماعي.

 

وتصدر هذه المقاربة الكلاسيكية عن نزعة واقعية متشائمة للطبيعة الإنسانية، مفادها النأي عن التدبير الأخلاقي للمجتمعات الإنسانية، والاكتفاء بوضع الهياكل المؤسسية الكفيلة بحماية حرية الإنسان وتجنيبه الاستبداد والظلم.

وقد برزت هذه الأطروحة لدى مختلف المفكرين الليبراليين الكلاسيكيين والمحدَثين في تعويضهم مبدأ الخير بمبدأ العدل في دلالاته الإجرائية التوزيعية المحضة.

 

ما يلاحظه شرنيس هو أن هذه المقاربة المؤسسية الإجرائية لليبرالية لم تنجح في تجنيب المجتمعات الأوروبية خطرَ النزعات الفاشية والنازية ما بين الحربين، كما أنها في بعض الأحيان مهّدت الطريق للأنظمة الاستبدادية الاشتراكية، وهي اليوم المسؤولة عن أشكال الليبراليات الشعبوية التسلطية التي تتزايد في الديمقراطيات الغربية.

 

وفي هذا السياق، ينتقد شرنيس الرؤية الاقتصادوية الضيقة للحرية الإنسانية، أي النظر إلى الإنسان من حيث هو مجرد ذات منتجة ومستهلكة دون اعتبار المقومات الأخلاقية للسلوك البشري.

 

وفي مقابل هذه الليبرالية «القاسية»، يدعو شرنيس إلى إعادة الاعتبار لليبرالية السلوكية أو القيمية، التي يرصدها لدى مفكرين أربعة، هم الروائي والأديب الفرنسي ألبير كامو وعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي ريمون أرون والفيلسوف البريطاني أشعيا برلين وعالم اللاهوت الأميركي رينهولد نيبوهر.

 

ما يجمع هذه الوجوه الأربعة التي عاشت في النصف الثاني من القرن العشرين هو التأكيد على الأبعاد الأخلاقية والقيمية في الواقع الاجتماعي الحي، ضمن سياق ليبرالي تُحترم فيه حريةُ الإنسان وحقوقُه الأساسية.
التركيز هنا ليس على المؤسسات الصورية المجردة، وإنما على نمط العيش الملموس، من خلال مجموعة من القيم الأساسية التي هي الأسس المعيارية لليبرالية العادلة من إيثار وانفتاح وتسامح وصبر وشجاعة وتواضع وحس نقدي.

 

وإذا كان عالم الاجتماع الألماني المعروف ماكس فيبر سباقاً في التنبيه إلى علاقة الليبرالية بالقيم الدينية للمذهب الإصلاحي المسيحي، فإن الفكر الليبرالي في أساسه أهمل هذه الأبعاد الأخلاقية من منظور اقتصادي قانوني صرف للنظام الاجتماعي.
وهكذا نلمس لدى شرنيس نهج «أشعيا برلين» في نقد ليبرالية عصر الأنوار في اكتفائها بالمفهوم السلبي للحرية، بما يفضي إلى تبرير وتسويغ أخطر نزعات الاستبداد والتحكم باسم التعاقد الاجتماعي السيادي المطلق، بينما يغيب المفهوم الإيجابي للحرية المرتبط بقيم المسؤولية والتضامن.

 

ومن اللاهوتي الأميركي «نيبوهر» في نزعته المسيحية الواقعية، يستمد شرنيس فكرةَ الديمقراطية الملتزمة التي لا تكتفي باحترام الشكليات المؤسسية وإنما تكرسها للقيم الإنسانية، حتى لو كان من الضروري تنزيل هذه القيم في هياكل منظمة صارمة بدل تركها للنيات والدوافع الأخلاقية الفردية.
لا مناص من الاعتراف مع شرنيس بأن الفكرة الليبرالية التي كان يُعتقد بأنها ستسود في العالَم كله بعد نهاية الحرب الباردة، تعاني اليوم من مصاعب وإشكالات عميقة حتى في مجالها الأصلي في الغرب.
كما يبدو من البديهي أن الرهانات الأخلاقية تعود بقوة في أيامنا هذه، نتيجةً لعاملين أساسيين: انحسار المدونة القيمية المرتبطة تاريخياً بالتراث الديني، وانهيار الأيديولوجيات الكبرى التي عوّضت في العصور الحديثة هذه التقاليد الأخلاقية.
إن ذلك الوضع المزدوج هو الذي يفسر اليوم الصدام المتزايد داخل المنظومة الليبرالية بين نزعة محافظة تحاول ترميم التقليد الديني والاجتماعي من منظور خطاب الهوية القومية والحضارية، ونزعة أممية تسعى لإعادة تصور المواطنة والحقوق الإنسانية ضمن إطار العولمة والمجتمع الكوني المفتوح.

 

وحاصل الأمر أن الأحزاب الليبرالية التقليدية في الديمقراطيات الغربية قد انهارت كلياً، وما نعيشه راهناً هو التأرجح بين خيار الديمقراطيات غير الليبرالية (حسب عبارة الزعيم المجري فيكتور أوربان) وخيار اليسار الليبرالي الجديد في تشكلاته المتنوعة المتغيرة.

 

ومن هنا ضرورة إعادة التفكير في الأسس المعيارية والقيمية للمنظومة الليبرالية في ما وراء محدداتها الإجرائية والتنظيمية التي لا خلاف حولها ولا بديل عنها.

 

*د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني

(الاتحاد)

[cov2019]