إفساد الرياضة بعاهات ثقافة العولمة

إفساد الرياضة بعاهات ثقافة العولمة

 

نحن بالفعل في عالم هربت منه البراءة ودمر الفرح الإنساني البسيط لينخره الفساد والطمع والتلاعب بكل نشاط إنساني لصالح من يهيمنون عليه!
نحن بالفعل في عالم هربت منه البراءة ودمر الفرح الإنساني البسيط لينخره الفساد والطمع والتلاعب بكل نشاط إنساني لصالح من يهيمنون عليه.
ما معنى أن ينال لاعب، ولو كان بالغ القدرات، نصف مليون إسترليني أسبوعيا بينما لا يتجاوز دخل أكثر من مليار إنسان عن دولارين في اليوم لكل منهم؟
ما معنى أن تصرف نوادي كرة القدم عشرات الملايين من الدولارات لإقناع هذا اللاعب أو ذاك للانتقال من النادي الذي ينتمي إليه ليصبح أحد أعضائها؟
هل نحن أمام مونديال رياضي؟ أم أمام مونديال سياسي واقتصادي ناعم انتهازي لجعل صورة العرب والمسلمين تماثل صورة الغنيّة التافهة والغبية المتخلفة؟
* * *
أن تكون لعبة كرة القدم لعبة جميلة ممتعة، ويثير أبطالها، الكبار المتميزون، الإعجاب والدهشة، فإن ذلك واقع لا شك فيه على الإطلاق. واللعبة بالفعل تستحق كل ذلك الاهتمام الذي يثار حول مواسم لعبها الإقليمية والدولية.
لكن هل يساهم بعض من ممارساتها في طرح أسئلة مقلقة محيرة بشأن تشوه تلك الصورة وتقلبها من مشهد رياضي جميل، إلى مشهد تجاري نفعي قبيح؟
وإلا فما معنى أن يستلم لاعب، حتى لو كان بالغ القدرات، نصف مليون جنيه إسترليني في الأسبوع، بينما لا يزيد دخل أكثر من مليار فرد من البشر عن دولارين في اليوم لكل منهم؟
ما معنى أن تصرف بعض نوادي كرة القدم عشرات الملايين من الدولارات لإقناع هذا اللاعب أو ذاك للانتقال من النادي الذي ينتمي إليه ليصبح أحد أعضائها؟
وإلى ماذا يشير قبول ملايين الشباب والشابات لهذه الظاهرة بدليل انخراطهم في كل تفاصيل تلك اللعبة، دعماً مادياً من خلال شراء التذاكر، حتى لو وصلت أسعارها إلى مستويات جنونية، وحماساً جماهيرياً يشق عنان السماء، ومماحكات لا تتوقف على شبكات التواصل الاجتماعي حول مدح هذا الاسم أو شتم ذاك؟
لا يمكن للأجوبة على تلك الأسئلة إلا أن تكون ثاوية في عمليات غسل الدماغ المتنامية المدفوعة الثمن، التي أصبحت ظاهرة العصر بلا منازع، وثاوية في وباء التوحد النفسي، الذي رسخته فلسفة التركيز على الفرد والتهميش لكل أنواع مؤسسات التواصل الاجتماعي البشري، وعلى رأسها العائلة والنقابة والحزب والنادي، وثاوية في تجييش كل تكتيكات وحيل علوم النفس السلوكية والتحليلية والجماهيرية وعلم الإحصاء لزرع الغباء في العقل الإنساني، والتلاعب بالرغبات الجامحة في مخيال الشباب.
وهي جميعها تكون نوعاً من «الهجوم المباشر على اللاوعي»، كما يقول الاقتصادي جوزف شومبيتر بشأن تأثيرات صناعة الإعلانات التجارية على الزبائن في مضاربات الأسواق، وتنافس المتاجر، وتتمثل في نظام إغرائي، متخفٍ، مخادع، حيث تختلط مصالح السياسة والاقتصاد المخفية، ببراءة الرياضة وأبطال الرياضة وجماهيرها العريضة..
ولذلك فليس بمستغرب أن تتزاحم أجواء مونديال الكرة العالمية التي تقام على أرض عربية ـ إسلامية بخليط عجيب من التصريحات، والتلميحات، وخلط السم بالعسل، وإقحام هذا الموضوع الجانبي المؤقت في ذلك الموضوع المركزي، وذلك من أجل خلط الأوراق لصالح ذلك التعصب الاستعماري، أو تلك الجرائم الصهيونية، أو لقلب ما هو رمزي رياضي ليصبح واقعاً سياسياً في المستقبل، والتنطع من قبل من استعمروا وأشعلوا الحروب ودمروا البيئة واحتضنوا الإرهابيين في أرض العرب، بإلقاء المحاضرات الحقوقية والأخلاقية المشبوهة.
هنا يتساءل الإنسان: هل نحن أمام مونديال رياضي؟ أم أمام مونديال سياسي واقتصادي ناعم انتهازي لجعل صورة العرب والمسلمين تماثل صورة الغنيّة التافهة والغبية المتخلفة؟
وهل نحن أمام جماهير تلعب بعقولهم ونفسياتهم ومشاعرهم كل قوى الاستغلال والنهم، لتجعل حضور المونديال ليس أكثر من تجميع لضحايا التوحد النفسي والغباء العقلي المصطنع والمراهقة السلوكية، من الذين يفتشون عن أي تجمع أو مهرجان أو مظاهرة ليهربوا، ولو مؤقتاً، من جحيم الوحدة والضياع الذي فيه يعيشون؟
نحن أمام ظاهرة عصرية كبرى خطرة: نجاح فلسفة العصر النيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة في الاستفادة من كل نشاط إنساني لصالح قلة من أصحاب المال والوجاهة والسلطة المتلاعبة بالعقول والمشاعر لصالح نهمهم وترفهم، وها أن لعبة كرة القدم الجميلة البريئة تلتحق بطابور طويل من ضحايا تلك الفلسفة.
نحن بالفعل في عالم هربت منه البراءة ودمر الفرح الإنساني البسيط لينخره الفساد والطمع والتلاعب بكل نشاط إنساني لصالح من يهيمنون عليه.
*د. علي محمد فخرو سياسي ومفكر بحريني

(الشروق)

[cov2019]