الأكسجين الذي يحتاجه الأردن

0

الأكسجين الذي يحتاجه الأردن

 

غباء وإهمال بشري تفوّقا على الذكاء الاصطناعي ورفض البشر الاستجابة لتحذيرات أجهزة رقمية محوسبة من نفاد الأكسجين. الأردن يعاني أزمة اقتصادية صعبة وسط جوار منكوب مع تراجعٌ المساعدات عربيا ودوليا وكان يمكن تجاوز ذلك كله بخسائر أقل عبر كفاءة الإدارة الحكومية. “عملية التحوّل الديمقراطي ما زالت تمرّ بمرحلة انتقاليّة طويلة، فما زال ثمّة كثير من قضايا التنمية السياسية والإصلاح السياسي تراوح مكانها ولم تُحسَم”. الديمقراطية هي الأكسجين الذي تحتاجه البلاد فهي تتيح للصحافة الحرّة رصد الأخطاء قبل حدوثها واستفحالها وتمكِّن الناس من اختيار ممثليهم وحكومتهم. * * *

 

تقديم الكاتب الصحفي اشرف السعدني

 

لم يكن ينقص الأردن بعد عام من جائحة كورونا وفاة ثمانية مرضى بسبب نقص الأكسجين، فالبلد يعاني معضلةٍ اقتصاديةٍ صعبة، وسط جوار منكوب، في سورية والعراق وفلسطين. معطوفا على ذلك تراجعٌ حادٌّ في المساعدات العربية والدولية. كان يمكن تجاوز ذلك كله بخسائر أقل، في حال كفاءة الإدارة الحكومية. ولكن هذه الإدارة، كما كشفت المأساة، تعاني من خلل خطير غير مسبوق، خصوصا أن الجهاز الطبي الأردني ظلّ نموذجا على مستوى عربي. وعلى سبيل المثال، لا يزال القطريون يذكرون بالخير مؤسس مستشفى حمد، الدكتور كامل العجلوني، وهو وزير صحة أردني سابق ورئيس جامعة العلوم والتكنولوجيا، وهو رئيس المركز الوطني للسكري ومؤسّسه. عندما كان العجلوني وزير صحة في السبعينيات، كانت الموارد أقل والأجهزة الطبية يدوية وأقل كفاءة، وما كان يحدُث ما حدث يوم السبت الماضي في مستشفى السلط الحكومي الذي زادت كلفته على مائة مليون دولار، وأجهزة العناية فيه محوسبة ورقمية لا تترك مجالا للخطأ البشري. لكن الغباء والإهمال البشري تفوّقا على الذكاء الاصطناعي، ورفض البشر الاستجابة لتحذيرات الأجهزة الرقمية المحوسبة من نفاد الأكسجين. لا تعوّض خسارة الأرواح التي غادرتنا بسبب نقص الأكسجين. ما يمكن أن يعوّض الخسارة الاقتصادية من خلال إعادة بناء السمعة الطبية للأردن التي تضرّرت بشكل كبير،

 

 

فالسياحة العلاجية تشكل أعلى مورد للدولة، ولك أن تتخيّل الضرر الذي لحق بها، بفعل إهمال موظف وتقصيره. إعادة بناء السمعة عملية معقدة وصعبة، لكنها ممكنة. لا يعلم كثيرون ممن يتابعون أخبار الأردن، وحتى الأردنيين، أن السلط تضم أهم وأكبر شركة أدوية في العالم العربي، “الحكمة”، أول شركة عربية تُدرج في البورصة العالمية. والمفارقة أنها على شراكة مع “موديرنا” الأميركية، وأخذت حقوق إنتاج لقاح ضد كوفيد. نحن أمام لوحة سوريالية، بلد يحقق أطباؤه وصيادلته ورجال أعماله إنجازاتٍ على مستوى عالمي، ويفشل في تحقيق أدنى متطلّبات إدراة مستشفى عام! استكمالا للوحة هذه، ينشر مدير مستشفى خاص (الدكتور نائل المصالحة) تحذيره لوزير الصحة قبل ثلاثة شهور من نقص أكسجين. وفي منشوره، يكشف كيف تفرض الدولة ضريبة مبيعاتٍ على الأكسجين. وهو سلعةٌ تحتاج دعما مباشرا، وليس فرض ضرائب. وفي الأثناء، تداول الأردنيون فيديوهات قديمة لمسؤول في الخدمات الطبية الملكية، يرصد فيها بالأرقام، الوضع المالي الكارثي للخدمات التي تشكل العمود الفقري للطب في الأردن. مقابل الصورة القاتمة، ثمّة صورة مشرقة، رسمها كتّاب وناشطون عرب على منصّات التواصل، مصريون وعراقيون ويمنيون .. قارنوا بين حوادث مشابهة وأكثر مأسوية حصلت في بلدانهم، ولم يكلف وزيرٌ نفسه بمتابعة أي منها. في الأردن، تحرّك المجتمع كله،

 

 

وبعد استقالة وزير الصحة، زار الملك المستشفى، وشاهده المواطنون يوبّخ مدير المستشفى على صنيعه. واتّحد الأردنيون غضبا وحزنا، وكسروا قرارت الحظر، وتظاهروا احتجاجا. أظهر الأردنيون حيويةً افتقدتها شعوبٌ كثيرة ما لجرح ميّتها إيلام. ولعل أطرف ما نشر في مظاهرة حي الطفايلة (في عمّان) أن “أم محمد العكايلة” تحث ابنها، في بث في “فيسبوك، على المشاركة في المظاهرة. فهي لم تخش عليه من التظاهر، ولا من المواجهة مع الدرك، لكنها خاطبته “حمّودة حطّ كمّامتك”، فالأم حريصةٌ على صحة ابنها بقدر ما هي حريصةٌ على مشاركته في مظاهرة احتجاجية. تتجاوز المشكلة في الأردن حلولا تجميلية، تحتاج، على رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي، تغييرا في “النهج”، بحسب تقريره عن حال البلاد 2019، وكان يرأس المجلس عضو مجلس الأعيان (مجلس الملك)، مصطفى الحمارنة، وهو مؤسسة علمية من مؤسسات الدولة، لا المعارضة. كانت توصية التقرير الأشمل التأكيد على ضرورة “الإسراع في تغيير نهج الإدارة العامة للدولة”، بعدما رصد أن ازدياد “حجم فجوة الثقة القائمة بين الحكومات والناس سببه ضعف حلقات الإدارة العليا، وغياب الرقابة والمساءلة على صعيد المؤسسات، وهو ما يعمّق من النهج القائم، والذي بالضرورة يقود إلى مزيد من التراجع”.

 

 

وأوضح التقرير أن “عملية التحوّل الديمقراطي ما زالت تمرّ بمرحلة انتقاليّة طويلة، إذ ما زال ثمّة كثير من قضايا التنمية السياسية والإصلاح السياسي تراوح مكانها ولم تُحسَم”. هذا هو الأكسجين الذي تحتاجه البلاد، فالديمقراطية هي التي تتيح للصحافة الحرّة رصد الأخطاء قبل حدوثها، وتحول دون استفحالها، وتمكِّن الناس من اختيار ممثليهم وحكومتهم الدستورية. ليس هناك شعار فارغ في الأردن مثل شعار “حكومة منتخبة”، فالدستور الأردني ينص أن نظام الحكم “نيابي ملكي”، والحكومة تشكّل من كتلة الأكثرية في مجلس النواب، وهذا ما حدث في حكومة سليمان النابلسي في الخمسينيات، وفي الحكومة التي نالت ثقة مجلس النواب الحادي عشر (1989 – 1993). يقال إن الأكسجين أغلى سلعة عندما تفتقده، وهو أرخص سلعة في الواقع. كذلك الديمقراطية.

* ياسر أبوهلالة كاتب وإعلامي أردني

[cov2019]