التغيير مع بايدن لن يكون انقلاباً جذرياً
التغيير مع بايدن لن يكون انقلاباً جذرياً
تنقسم الدول في توقّعاتها: الصين حذرة وروسيا مترقّبة وأوروبا تميل إلى التفاؤل.
لن يتضمن التغيير المنتظر مع بايدن انقلابات جذرية فمعظم المصالح والأهداف يبقى وإنْ اختلف الأسلوب والخطاب.
* * *
تطرّقت الأفلام ومسلسلات الدراما السياسية الأميركية، التي كان البيت الأبيض مسرحاً لها، إلى أحداث وقعت فعلاً أو وقائع استشرافية، لكنها لم تعرض أي حالة مشابهة للواقع الراهن. كان معظم السيناريوهات يتكيّف مع منظومات الدستور والقواعد والأعراف، ولم يتوقّع شخصيةً تنطبق عليها مواصفات «من خارج الصندوق» كالتي أظهرها دونالد ترامب في مقاربته لقضايا حسّاسة ودقيقة، وصولا إلى تعامله مع نتائج الانتخابات الرئاسية.
ثمة الكثير المعلوم في الدراما الحالية، والكثير الذي ينبغي تعلّمه مجدّداً: قوّة النظام والدولة وحدودها، قوّة المؤسسات والتوازنات في ما بينها، والتعقيدات التي تنطوي عليها الديمقراطية تبدو ظاهرياً بسيطة ومنسجمة، لكونها مبثوثة في تنشئة مزمنة وعميقة.
ففي خضم الجدل، المحموم أحياناً، لم يستخفّ أحد بحصانة الناخب وصوته ولا بسلامة عملية فرز الأصوات، أما القول بـ«سرقة الانتخابات» فبقي مجرد اتهام، وبقي القضاءُ المرجعيةَ الصالحة لبتّه، بل كان ردّ الفعل العاقل في الداخل، كما في الخارج، أن «التزوير» و«التلاعب» غير محتملين. ولا داعي لمقارنات مع بلدان أخرى.
رغم الانقسام والتنافس الحادّين، ووجود معطيات واقعية لتوقّع تحرك ميليشيات مسلّحة وجماعات متطرّفة، إلا أن منطق القانون كان أكثر حسماً من حتمية القمع. ويقضي جوهر الاحتكام إلى صناديق الاقتراع بتسوية الخلاف على نتائج التصويت في المحاكم أو بالسياسة، وليس في الشارع. فنزاهة العملية تتعلّق بمصداقية الدولة. وهنا أيضاً لا داعي للمقارنات.
تفترض شدّة التنافس افتراقاً في الرؤى والخيارات، فهل تعني تغييراً جذرياً في السياسات؟ في اللحظة التاريخية الراهنة صنعت إدارةُ أزمة وباء «كوفيد-19» الفارقَ في مزاج الناخبين، خصوصاً مع تداعياتها على الاقتصاد.
هذه هي أولوية الرئيس المنتخب جو بايدن، ولعله كان محظوظاً بـ«تأخّر» ظهور لقاح «فايزر» أسبوعين عما توقّعه منافسه ترامب الذي أمل بأن يتوّج اللقاح حملته الانتخابية. لكن الوباء باقٍ لسنوات كـ«إنفلونزا» أخرى متزاملة مع تلك التي ضربت العالم قبل مئة عام. كذلك تأثيره في الاقتصاد سيستمر في انتظار الوصول إلى حال «مناعة القطيع».
الاهتمام بالداخل الأميركي ليس انكفاءً، وقد يعني أيضاً العالم في جوانب كثيرة منه. ففي المدى المنظور لا توجد بدائل عن النموذج الأميركي بكل تنويعاته مهما بلغ تفوّق الصين اقتصادياً أو صعود روسيا استراتيجياً.
الانتخابات الأخيرة ظهّرت مجدّداً معنى الاستثناء الأميركي، وكيف أن أعداءه يحتاجون إليه إسوة بحلفائه وأصدقائه. صحيح أن هؤلاء جميعاً يشكون من التقلبات السياسية، فأميركا تحكم العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بسياسات متغيّرة، لكن المصالح والقيم والمبادئ هي التي صنعت قواسم مشتركة (أميركية) لما سمّي «النظام الدولي».
وإذ واصلت روسيا والصين الخروج عن هذا المشتَرَك، فإن ما فعلته «أميركا-ترامب» أنها قلبت الطاولة على كل مشتَرَك مألوف، فأقلقت الجميع ولم تطرح دائماً بدائل معقولة يمكن التكيّف معها.
لن ينطوي التغيير المنتظر مع بايدن على انقلابات جذرية، فمعظم المصالح والأهداف يبقى وإنْ اختلف الأسلوب والخطاب. لذلك تنقسم الدول في توقّعاتها: الصين حذرة وروسيا مترقّبة وأوروبا تميل إلى التفاؤل.
* عبد الوهاب بدرخان كاتب صحفي لبناني
جو بايدن، إدارة بايدن، الولايات المتحدة، إدارة ترامب، النظام الدولي، روسيا، الصين، النموذج الأمريكي، مناعة القطيع،
(الاتحاد)