الحرب الباردة الثانية مستمرة
الحرب الباردة الثانية مستمرة
بعض حلفاء أمريكا فقدوا الثقة بقدرتها على قيادة معسكر الغرب في المستقبل.
الصين اتخذت قرارها بأن تقابل التصعيد الأمريكي في المنافسة بينهما بتصعيد ليس أقل حزماً.
لا عودة عن حرب باردة بين الدولتين الأعظم سواء تغيرت وجوه القيادة السياسية الأمريكية أو بقيت.
في أمريكا آراء وجماعات فكرية تشير على صناع القرار الأمريكي بتسريع خطط مواجهة صعود الصين.
في الصين من ينصح قادته بأن تسرع خطى الصعود قبل أن تكتمل قوة وكفاءة نظرائهم على الجانب الأمريكي.
في البيت الأبيض بعد إعلان النتائج ستتغير أمور لكن يكاد يبقى بحكم اليقين أن حرب أمريكا الباردة مع الصين ستستأنف فورا.
* * *
قرأت خطاب الرئيس شي الذي ألقاه قبل أسبوعين في إحدى لجان قيادة الحزب الشيوعي الصيني. يومها ازدادت قناعتي بأن الصين اتخذت قرارها بأن تقابل التصعيد الأمريكي في المنافسة بينهما بتصعيد ليس أقل حزماً. ثم تابعت بالتركيز على السلوك الرسمي للدولتين تجاه بعضهما بعضاً.
ورحت أتحسس مواقع التصعيد في التعامل والتغيير في مستوى الخطاب السياسي. ولفت انتباهي بشكل خاص النشاط المحموم لمايك بومبيو، متنقلاً من بلد في أوروبا إلى بلد في أعماق إفريقيا حاملاً رسائل دبلوماسية لكبار المسؤولين في دول عدة.
أكتب هذه السطور قبل إجراء انتخابات الرئاسة الأمريكية بيوم واحد. وبعد أيام ربما يكون لدينا اسم الرئيس الجديد للولايات المتحدة، أو تتمدد رئاسة ترامب لولاية ثانية.
أقول ربما، لأن الرئيس ترامب حذر متوعداً أنه ربما يقرر رفض الاعتراف بالنتائج إن لم ترُق له. أظن أن الدولة الأعمق في الولايات المتحدة لن تواصل الصمت على تجاوزات السياسيين.
وأظن أنها سوف تبلغ المرشحين بطريقة، أو أخرى، أنها لن تسمح بتلاعب خطير، أو التدخل بوسائل غير عادية لتغيير النتائج، أو استخدام القوة للتأثير في إرادة الناخبين أثناء عملية الانتخاب، أو بعدها.
هذه المقدمة كانت ضرورية لإبراز خطورة ما هدّد به الرئيس ترامب، وربما خطط بالفعل لتنفيذه، ولم يخفِه عن الرأي العام الأمريكي، وفي الوقت نفسه لم يخفِه عن حلفاء أمريكا، وخصومها، بخاصة على الصين، وروسيا.
أتصور أن دولاً كثيرة، ومؤسسات أمريكية بعينها، ما كانت لتقبل بوقوع فوضى تهدد أمن واستقرار أمريكا، وتزيد من سرعة انحدار وزن القوة الأمريكية، وتؤثر بالتحديد في موقع أمريكا في المنافسة المحتدمة بالفعل بين الولايات المتحدة، وجمهورية الصين الشعبية.
هناك أسباب أخرى تدفعني لتجاوز بعض السياقات الراهنة للدفاع عن رأي له وجاهته. وأعرض خلاصة هذا الرأي في الكلمات القليلة التالية:
لن يغير فوز جوزيف بايدن، أو دونالد ترامب، في الانتخابات الجارية في الولايات المتحدة، في القرار الذي اتخذته بالفعل القيادة الحاكمة في الصين، والقاضي بتصعيد وتسريع خطوات المنافسة المشتعلة بين الصين، والولايات المتحدة، لا عودة إلى الوراء.
لا عودة عن حرب باردة بين الدولتين الأعظم، سواء تغيرت وجوه القيادة السياسية الأمريكية، أو بقيت. ولا شك في أن لأصحاب هذا الرأي أسبابهم، وأفكارهم، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، الأسباب والأفكار التالية:
– أولاً: لا جدال، ونحن شهود، على أن الطرفين، الأمريكي والصيني، بذلا جهداً خارقاً خلال العامين الأخيرين، وتكلفا ثروات هائلة لتقريب المسافة التي تفصل كلاً منهما عن موقع بعينه في صف قادة العالم، وفي الوقت نفسه إعادة النظر في جدوى كل الوسائل التي استخدمها الطرفان لتوسيع، أو تضييق الفجوة الفاصلة بينهما خلال سعيهما نحو القمة.
– ثانياً، تتشابه الدولتان حيثما تبدوان مختلفتين شديد الاختلاف. ويجنح محللون تحت الاقتناع بأن الصين دولة يحكمها نظام سياسي شمولي، إلى تصور أنْ لا مكان في الصين لقوى أو جماعات ضغط كالموجودة في الغرب، بخاصة في الولايات المتحدة.
وُجدت هذه الجماعات، وإنْ في أشكال مختلفة، في حياة الرئيس ماو تسي تونغ، ولعبت أدواراً مهمة في صياغة مسيرة الثورة في عديد المراحل وبخاصة مرحلة الثورة الثقافية. وكثيراً ما بدت لي مثيرة للغاية متابعة حركة رئيس اللجنة المركزية للحزب خلال محاولته الخروج بتوافق عام بين مختلف جماعات الضغط على قضية، أو أخرى.
بل وهناك اختلافات في الرؤى يكتشفها المدققون، وما أكثرهم الآن. هؤلاء بأعدادهم الراهنة وكفاءة بعضهم يذكرونني بخبراء عرفوا بأخصائيي الكرملين في زمن الحرب الباردة بين أمريكا، والاتحاد السوفييتي.
سمعت أنه بين هؤلاء المدققين على الجانب الصيني من ينصح قادته بأن الصين يجب أن تسرع خطى الصعود قبل أن تكتمل قوة وكفاءة نظرائهم على الجانب الأمريكي. أتيت بهذا المثال بعد أن تأكدت أن في أمريكا آراء وجماعات فكرية مماثلة تشير على صناع القرار الأمريكي بتسريع خطط مواجهة صعود الصين.
– ثالثاً: كثيرون على هذا الجانب، أو ذاك، يعطون المنحى الثقافي في السباق أهمية خاصة. هذا السباق، أو الصراع، أو التنافس هو الأول من نوعه، هذا إذا استبعدنا المحاولتين البائستين من جانب اليابان لتفرض نفسها على مجتمع الدول المهيمنة، مرة مع روسيا وانتصرت، ومرة مع الغرب بأسره وانهزمت.
ولم يغفر الغرب لليابان فعلتها فكان عقابه لها شديداً، اعتبر أن ما فعلته اليابان كان تجربة أولى نحو افتعال «صدام حضاري» هدفه إخراج الغرب من آسيا.
– رابعاً: يعرب علماء سياسة غربيون عن اعتقاد بدأ يسود ويقضي بأن بعض حلفاء أمريكا فقدوا الثقة بقدرة الولايات المتحدة على قيادة معسكر الغرب في المستقبل. وتكاد خطابات أمين عام حلف الناتو تشي بأن هذه المقولة لها ما يبررها على أرض الواقع.
– خامساً: في كل الأحوال، وأخذاً في الاعتبار كل الإجابات والمواقف، يكاد يكون من المسلّم به أن الوقت تأخر، فالصين تمسكنت حتى بالفعل تمكّنت. والشهادة المقنعة في هذا الشأن هو في ما سجله جفري فيلتمان المدير السابق للإدارة السياسية في الأمم المتحدة، والسفير الأسبق لدى لبنان، في مقال نشر له مؤخراً.
يتضمن المقال معلومات مهمة عن حجم ونوع التغيير في النظام الدولي الذي تسعى الصين لتحقيقه. وقدم مثالاً عما يحدث الآن في التعيينات للوظائف الأساسية في المنظمة الدولية، ووكالاتها المتخصصة من ناحية، وفي سَن وتسريب قواعد جديدة للسلوك ومبادئ العمل الدولي من ناحية أخرى.
ويحدث ما يحدث في أمريكا عامة، وفي البيت الأبيض، بخاصة بعد إعلان النتائج، سوف تتغير أمور كثيرة، أو قليلة، ولكن يكاد يبقى في حكم اليقين أن حرب أمريكا الباردة مع الصين سوف تستأنف على الفور.
* جميل مطر مفكر ودبلوماسي مصري سابق وكاتب بقضايا العولمة والنظام الدولي.
الولايات المتحدة، الصين، الحرب الباردة، ترامب، الغرب، اليابان، ترامب، بايدن، القوة الأمريكية،
(الشروق)