ربما ما اكتبه اليوم سيكون شاهدا عليّ غدا.. فبين ليلة وضحاها تتأثر حياته وتتغير لمجرد قرار من أحدهم صوابا من وجهة نظره وخطأ من وجهة نظر الاَخر.. يعمل ليلا ونهارا من الثامنة صباحا حتى الثانية عشر مساءا ليس من أجل توفير نفقات الزواج وخلافه بل من أجل أن يبقى فقط على وجه البسيطة.. أو قل من أجل توفير نفقات المواصلات فقط من المنزل إلى العمل والعكس صحيح.
يستيقظ في السادسة صباحا ويبدأ يومه باحتساء كوبا من الشاي ثم يرتدي ملابسه المعتاده كل يوم وعلى الفور يتجه إلى موقف “الميكروباص” المتجه إلى الدقي (ذاك المكان المعروف عنه بتواجد أغلب الصحف والمواقع الإلكترونية) ليبدأ “شيفته” المحدد من الثامنة، يجلس على الكرسي ويبدأ يبحث عن فكرة ما من أجل تحقيق “التارجيت” المطلوب مع سماع التعليمات اليومية كالعادة.. وبعد الانتهاء من ساعات العمل المقررة في الرابعة عصرا يبدأ في لملمة متعلقاته الشخصية، ليطير على الفور إلى مكان عمله الاَخر والذي يبدأ من الخامسة مساءا حتى الثانية عشر بعد منتصف الليل.
وإذ فجأة يتحول إلى اَلة ميكانيكية يعمل ليلا ونهارا من أجل توفير مصاريف التنقل، لا يشعر بالتعب وإن شعر لا يجد علاجا.. هذه هي الحقيقة التي يغض الكثيرين عنها الطرف أو لا يريدون التحدث عنها.. فمن الصحف القومية إلى الحزبية ومن ثم الخاصة “الكل في مركب واحدة مع امتيازات طفيفة لكل فئة عن الاَخرى ولكن في النهاية جميعهم يحاولون مواجهة الأمواج العاتية من أجل الوصول إلى الشاطئ بأي شكل كان”.
“يابني ابعد عن المهنة دي أو شوف ليك شغلانة جنب الصحافة، لأنها مبقتش تأكل عيش، دي هواية مش مهنة”.. كلمات سمعتها من أحد شيوخ المهنة الذين جابوا الأرض طولها وعرضها وقعت عليا في بادئ الأمر كالصاعقة.. هل هو محق أم لماذا يقول ليّ هكذا؟.. ولكن بعد سنوات ربما ليست بالقليلة تأكدت أن كل حرف خرج من فمه لا يشوبه الكذب على الإطلاق وندمت على أنني لم أصغى إلى حديثه جيدا.. ولكن كانت قد غرست القدم في الوحل.
“صحفي تحت التعذيب”.. أشمل وأصح جملة تقال في الوقت الحالي لكل من دخل هذا العالم دون معرفة حقيقية لخباياه.. وكنت قد كتبت منذ عدة أشهر مقال تحت عنوان “أغلقوا كليات الإعلام” ومقال اَخر بعنوان “صديقي الصحفي الذي يعمل لدى أوبر”.. فكم المهازل التي يتعرض لها أبناء المهنة سواء المعينون أو الذين لم ينتموا إلى النقابة لا حصر لها ويشيب لها الولدان.
يأتي إلى الجريدة في اليوم الأول مبتسما لدية شغف حقيقي وحماس “يهد جبال” يبدأ يسأل هذا وذاك.. يسخرون منه بكلمات متقطعة “ميعرفش إيه اللي هيحصل فيه بكرة لا فلوس ولا تعيين”.. يسير بين الطرقات يتعرف على كل من تراه عينه فهو كالقماشة البيضاء وقطعة “الصلصال” التي سيتم تشكيلها فيما بعد.. ليأخذ عصارة وجهد زملاء عبر سنوات طوال.. ويبدأ هو الاَخر في مسيرة ملّ منها أقرانه القدامى.
السؤال الذي يطرح نفسه.. أي تدريب الذي يستغرق 5 و 6 سنوات بمرتب فتات “لا يثمن ولا يغني من جوع”.. مرتب يُصرف قبل أن يُؤخذ.. في الحقيقة لا يطلقون عليه مرتب بل مكافأة لكنها إن صح التعبير إهانة.. العمل الإعلامي سواء المقروء منه أو المسموع أو المرئي بات في وضع مخزي للغاية، غير منظم، “مهنة لا مهنة له”.. وبالمال يفعل لك ما تحلو سواء تأجير هواء على إحدى القنوات أو تدشين صحيفة أو موقع إلكتروني.
لست ضد إطلاق المنصات الإخبارية أو القنوات الخاصة، ولكنني ضد الفوضوية وعدم التنظيم وحفظ حقوق العاملين، وأن يكون الهدف الرئيسي من تلك المنصة خدمة المجتمع وتثقيفه وإيصال معلومة حقيقية له، وأن يكون هناك ميكروسوب مسلط على الخريجين الذين يعملون في الميديا، حفاظا على حقوقهم.
وكي نكون منصفين أود أن أسلط الضوء أيضا على شيوخ المهنة الذين بلغوان سن المعاش “التقاعد” ويتقاضون رواتب ضئيلة ومهينة بعد سنوات طويلة في العمل الصحفي والإعلامي.. الإعلام في الوقت الحالي دوره مهم للغاية، خاصة وأننا في حرب بالوكالة مع قطر وتركيا والعديد من الدول التي سلطت أسلحتها الإعلامية ضد مصر.