بين النظر والعمل
بين النظر والعمل
يقوم المنهج الأصولي على وضع منطق للأفعال يسمى الأحكام التكليفية.
هناك الحلال أو المباح الطبيعي الذي تكمن الشرعية في وجوده البراءة الأصلية والفطرة الأولى.
الأحكام فرض أو واجب وهو الضروري إيجابا وعكسه المحرم أو المحظور وهو الضروري سلبا ثم مندوب وهو اختياري إيجاباً وعكسه مكروه اختياري سلبا.
* * *
الكاتب: اشرف السعدنى
يرفض المنهج الأصولي في علم أصول الفقه أن يجعل المنهج مجرد جدل أو نظر، بل هو منهج عملي لتحقيق الشرع. وليس العمل هو الطريق الصوفي، فهو طريق فردي ذاتي، يعنى بالتأويل، ويصعد بالإنسان إلى الله دون أن ينزل بالأحكام إلى العالم.
ويقوم المنهج الأصولي على وضع منطق للأفعال يسمى الأحكام التكليفية وجعلوها خمساً: الفرض أو الواجب وهو الضروري إيجاباً، وعكسه المحرم أو المحظور وهو الضروري سلباً.
ثم المندوب وهو الاختياري إيجاباً وعكسه المكروه وهو الاختياري سلباً. وما بين الإيجاب الضروري والاختياري، والسلب الضروري والاختياري.. هناك الحلال أو المباح، الطبيعي الذي تكمن الشرعية في وجوده، البراءة الأصلية والفطرة الأولى.
هذه الأحكام التكليفية الخمسة من جهة الفاعل تقوم على أحكام وضعية خمسة أخرى من جهة ميدان الفعل. فكل فعل له سبب وشرط ومانع، ويؤتى عزيمةً أو رخصة، ويكون صحيحاً أو باطلاً. السبب مثل الصلاة للتقوى، والشرط مثل الوضوء، والمانع مثل الحيض، والعزيمة وقوفاً والرخصة قاعداً أو مستلقياً، والصحة عدد الركعات، والبطلان الزيادة عليها أو النقصان منها. فالفعل حر له عدة مستويات من الوجوب، وهو يتحقق في ميدان متشابك وفي عالم ضروري.
ويقوم منطق الفعل من أجل تحقيق المقاصد، مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. ومقاصد الشارع أربع: وضع الشريعة ابتداءً كتعبير عن المصالح العامة فالمصلحة أساس التشريع، ثم وضع الشريعة للامتثال أي للاقتناع الحر، ثم وضع الشريعة للإفهام أي لفهمها دون إجبار، وأخيراً وضع الشريعة للتكليف أي للتحقيق كنظام مثالي للعالم.
ومن أجل الحصول على هذه الثمرة يطبق منطق اللغة المزدوج على مصادر الشرع الأربعة (وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس)، مثل: الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد، العام والخاص، الأمر والنهي.
وذلك بغية بيان الأبعاد المختلفة للنص الديني كصورة فنية، أو كتعدد في المواقف، أو كتوضيح لمعنى، أو كتطبيق على حالة خاصة (فرداً أو جماعة) أو توجيهاً لفعل (إيجابي أو سلبي).
ويؤخذ في الاعتبار أيضاً السياق، أي: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، والمسكوت عنه في الخطاب، وما لم يصرح به الشرع إلا بالإشارة.
أما مصادر الشرع فالكتاب الذي نزل به الوحي، في المكان بدليل أسباب النزول، وفي الزمان بدليل الناسخ والمنسوخ.. ثم السُنَّة أول تطبيق للوحي في التاريخ كتجربة نموذجية..
يليها الإجماع أي الوعي الجماعي المشترك في الاستدلال والمشورة.. وأخيرا الاجتهاد وهو الوعي الفردي لإعمال النظر وإبداء الرأي القائم على تحليل العلل والأسباب وتعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة.
هذا أيضاً منهج كلي شامل يجمع بين النظر والعمل، بين المنطق والسلوك، بين العقل والتجربة، بين الاستنباط والاستقراء، بين الاستدلال الفردي والاستدلال الجماعي، بين المعرفة المباشرة عن طريق الحس والعقل والوجدان، والمعرفة التاريخية عن طريق الرواية وهو المنهج الذي أبقى على المسلمين في التاريخ وحفظ لهم إبداعهم واستقلالهم الحضاري.
* د. حسن حنفي أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة
[cov2019]