لمن يكون الشرق الأوسط؟ سؤال لا أحبه
لمن يكون الشرق الأوسط؟ سؤال لا أحبه
ماذا يهم لو خرج من زبالة التاريخ من يسأل الآن لمن يكون الشرق الأوسط؟
تخرج أمريكا الآن وهي تسأل بكره أو شفقة لمن سيكون الشرق الأوسط بعد خروجها؟
لم نطالب أمريكا بالخروج حتى عندما راحت تنتزع ملكية أراض وتسلمها لليهود دون صكوك.
استولت أمريكا على الإقليم لسنوات قبل الحرب العالمية الثانية، وبعدها، تحكمت خلالها وهيمنت ونهبت وأذلّت!
من الأزمات التي خلفت جروحاً غائرة في سمعة النخبة الأمريكية الحاكمة إخضاع أكثر من رئيس لإجراءات تحقيق أو محاكمة.
فولفوفيتز خطط، وحده ومع آخرين نعرفهم لغزو العراق بلا دافع شرعي حقيقي فكانت حربا يجمع من أشعلوها أنها كيدية وعنصرية ومدمرة.
* * *
عشت ما يقارب القرن، وما زلت أسمع من يردد السؤال الأسخف بين كل ما تردد من أسئلة خلال القرن الماضي. هذه المرة كان السائل واحداً من أشهر السخفاء، وأزعم أن لدي من الأسباب ما يجعلني أصنفه بين من يستحقون صفة مجرمي الحرب!
إنه بول فولفوفيتز، الرجل الذي خطط، وحده، ثم مع آخرين صرنا نعرفهم، لشن حرب على العراق لغير ما دافع شرعي، أو حقيقي، هذه الحرب التي يكاد يجمع كل من أشعلها أنها كانت كيدية، وعنصرية، ومدمرة.
لعلها كانت الخطوة الأولى في عملية تدمير الشرق الأوسط تمهيداً لإعادة بنائه وفق رؤية لم تعلن وقتها، ولم تسجل في وثيقة، أو خطة، وعلى كل حال، لم نشاهد بعد البناء الجديد إن كان هناك بناء.
شاهدنا دمارًا في مكان يليه دمار في مكان آخر، وثالث، ورابع، وخامس، وعدد لا نهائي. مزقوا الخريطة التي تعلمنا على بحارها، وحدودها، وهضابها، وأنهارها، وتلالها، وصحاريها، وعلم الجغرافيا، وحكايات المهد العديدة التي صنعت في مجملها فجر تاريخ البشر.
هناك من يسأل: وماذا يهم لو خرج من زبالة التاريخ من يسأل الآن لمن يكون الشرق الأوسط؟ نعم يهمّ.
أولاً يهمّ لأن هذا الإقليم تسكنه أمم من البشر ظنت أن مبادئ الدول وقانونها تقر بأن من يعيش على أرض لآلاف السنين يصبح مالكها، ولا يجوز أن ينازعه أحد في ملكيته لها.
ويهم ثانياً، لأن بول فولفوفيتز كان الشخص الذي خرج قبل أيام قليلة يسأل السؤال السخيف، لمن يكون الشرق الأوسط؟ بول فولفوفيتز لا ينسى أن حكومة بلاده استولت على الإقليم لسنوات قبل الحرب العالمية الثانية، وبعدها، حكمت خلالها، وهيمنت، ونهبت، وأذلّت!
بعد أن فرضت أفكارها، وأنماط حياتها، وبعض عقائدها الاقتصادية، والاجتماعية، ثم هي اليوم تتعجل الخروج من الإقليم، أيضاً من دون مبرر مقنع.
لم نقاومها عسكرياً، ولا سياسياً. لم نطالبها بالخروج حتى عندما راحت تنتزع ملكية أراض وتسلمها لليهود من دون صكوك. تخرج وهي تسأل بكره، أو شفقة، لمن سيكون الشرق الأوسط بعد خروجها؟
تعرضت أمريكا خلال العقود الثلاثة الماضية لأزمات عدة تلاحقت ساهمت في سرعة انحدارها. ومن الأزمات التي خلفت جروحاً غائرة في سمعة النخبة الأمريكية الحاكمة إخضاع أكثر من رئيس لإجراءات تحقيق، أو محاكمة.
منها أيضاً اختيار رئيس للدولة بعيداً عن صندوق الانتخاب، وإن بالرجوع إلى حكم من المحكمة الدستورية العليا، ويبدو أن الأمر سيتكرر في انتخابات نوفمبر في حال فاز بأغلبية الأصوات المرشح الديمقراطي جو بايدين.
وفي مرحلة غير بعيدة، استولت على إدارة مقاليد البلاد أقلية مغامرة أطلقت على نفسها اسم «المحافظون الجدد». شنّوا حرباً في أفغانستان، لا تزال مشتعلة، بينما تحاول الآن القيادات الأمريكية كافة، الانسحاب بالتسلل؛ كما شنوا حربا ضد العراق، وبطلها فولفوفيتز.
وارتكبوا فيها جرائم لا تحصى، على رأسها حروب أهلية لم تتوقف، وسرقات على الملأ لنفط البلاد، ولا يزال الرئيس ترامب يصر على أن أمريكا لم تحصل من العراق على تعويض عما تكلفته واشنطن في الحرب.
ومن الأزمات أزمة مالية أمريكية ضربت إلى الأعماق الاقتصاد العالمي، وارتفق بالأزمة وصول رئيس للبلاد من الأقلية الأفروأمريكية.
الأمر الذي أعاد إلى سطح الحياة السياسية توتراً، وأثار أمواجاً عاتية لا تزال تهدد استقرار أمريكا، وتربك نوايا الترميم، والإصلاح.
ثم حل بالبيت الأبيض الرئيس الأشد غرابة في التاريخ الأمريكي ونزلت بالبلاد في نهاية عهده كارثة وباء الكورونا.
يصبح مفهوماً أن تعلن واشنطن عن مزاد عالمي تعرض فيه التنازل عن بعض هيمنتها على الشرق الأوسط، مقابل ترتيبات أمنية في منطقة تمتد من الهند نحو الشرق، حتى غرب الولايات المتحدة، وترتيبات في بحر البلطيق.
نعرف أن لا دولة أو مجموعة من الدول تقدمت بطلب الحصول على الحق في الهيمنة الأحادية، أو المطلقة على الإقليم، والتخمينات ترشح دولتين هما:
– روسيا، بحكم وجودها العسكري والسياسي على الأرض،
– والصين بحكم التوسع المتسارع في تنفيذ عمليات ربط اقتصادات المنطقة بشبكة مبادرة الحزام والطريق.
الظن الغالب بين المهتمين بشؤوننا هو أن المسألة لن تحسم قريباً للأسباب التالية:
– أولاً: اكتشاف أن أمريكا في حال أسوأ مما تصور كل الأطراف، ولا تحسُّن، أو انفراج منتظر عند الأفق. بالتالي لن تتمكن الأطراف مجتمعة، أو متفرقة من حسم الرغبات والطموحات الإقليمية في وقت مبكر.
– ثانياً: مسألة من هذا النوع، أقصد صلاتها بأوضاع إقليمية ودولية حساسة ودول إقليمية في أوضاع مرتبكة ودول كبرى لم تتوصل بعد إلى تحديد حدود توسعاتها وقدراتها على تعبئة الإمكانات اللازمة لتنفيذ هذه التوسعات، لن تجد الحسم الضروري إلا بعد أن تتضح معالم النظام الدولي القادم. والبدائل المتصورة حتى الآن هي القائمة، أو المتاحة من بدون بوادر تغيير يذكر.
وفي غياب المنافسة القوية والجادة بين الدول الكبرى في الاستعداد لدخول هذا المزاد، نزل إلى الساحة عدد من دول الصف الثاني، وهي بالتحديد تركيا، وإيران، وإسرائيل، في الوقت الذي أرى فيه تجاهلاً كاسحاً للدول والمؤسسات العربية التي كانت في وقت من الأوقات محوراً جوهرياً من محاور السياسة الدولية.
* جميل مطر كاتب ومفكر سياسي ودبلوماسي مصري
(الشروق)