مهمة التعليم الجامعي المزدوجة
أوضاع عالمنا المليئة بالأخطار والتعقيدات والمؤامرات تقتضي إعطاء أهمية كبرى للجانب الثقافي الإنساني في تكوين طلبة الجامعات.
الآن هناك مراجعة نقدية لمنطلقات الحداثة بالنسبة للنظام الليبرالي الديمقراطي سياسيا ومراجعة للنظام النيوليبرالي الرأسمالي العولمي وتداعياته ماليا واقتصاديا.
هل تُعد مؤسسات التعليم الجامعي الشباب للتعامل مع المراجعات بفهم عقلاني متزن وقدرة تحليلية نقدية موضوعية، وتمسك بالمرجعيات القيمية والأخلاقية لكل المراجعات؟
* * *
يموج عالم اليوم كله بمراجعات كبرى معمقة وجريئة للكثير من الأفكار والممارسات والسلوكيات، التي تبين أن فيها نواقص وعللا. ولعل الأزمات المالية والاقتصادية، وانتشار مختلف الأوبئة محلياً وعالمياً، وصعود حركات وشخصيات شعبوية جاهلة نرجسية غير متزنة، وازدياد المخاطر والفواجع البيئية، ساهمت إلى حد كبير في ظهور تلك المراجعات على مستوى العالم كله.
هناك الآن مراجعات نقدية لكل منطلقات الحداثة، خصوصاً بالنسبة للنظام الليبرالي الديمقراطي في الحياة السياسية. هناك مراجعة للنظام النيوليبرالي الرأسمالي العولمي، خصوصاً تطبيقاته في عوالم المال والاقتصاد.
هناك مراجعات كبرى لكل جوانب الموضوع البيئي الطبيعي والعمراني البشري. هناك أسئلة كبرى تطرح بشأن الأخطار الهائلة في حقل التواصلات الإلكترونية والاجتماعية المتعلقة بالأخلاق والذوق العام والقيم الإنسانية الكبرى.
وبالطبع تشمل المراجعة كل ما تقترحه موجات ما بعد الحداثة من أفكار جديدة وسلوكيات مجنونة وقيم غير أخلاقية وأحلام فردانية ضارة بالتماسكات المجتمعية وسلامتها.
كل ذلك يطرح في الحال السؤال المفصلي الآتي: هل إن مؤسسات المجتمع المختلفة، وعلى الأخص مؤسسات التعليم العالي الجامعي، تعد الشباب والشابات، جيل المستقبل الغامض المليء بالمفاجآت، تعدهم للتعامل مع تلك المراجعات بفهم عقلاني متزن، وبقدرة تحليلية نقدية موضوعية، وبتمسك بالمرجعيات القيمية والأخلاقية كموازين ضابطة لكل تلك المراجعات؟
في اعتقادي أن الغالبية الساحقة من الجامعات، وعلى الأخص في الأرض التي تهمنا، الوطن العربي كله، منشغلة إلى حدود الهوس بتهيئة تلامذتها التعليمية والتدريبية المهنية لكي يكونوا صالحين للقيام بوظائفهم بكفاءة ومرونة متغيرة ومتناغمة مع ضرورات وإملاءات الأسواق ومؤسسات الإنتاج، بينما تهمل الجانب المتعلق بتهيئة طلبتها بثقافة جادة ومتنوعة ليتخرجوا كمثقفين قادرين، ليس فقط بالاندماج في عالم العمل بكفاءة، وإنما ليكونوا قادرين أيضاً، وبالكفاءة نفسها، على فهم ونقد المراجعات الكبرى.
بل والالتزام الأخلاقي والضميري بالنضال من أجل مراجعات عميقة لصالح المجتمعات والشعوب، وليس لصالح أقليات الاستغلال والهيمنة والظلم واللاأخلاق في هذا العالم، وعلى الأخص في وطننا العربي الكبير.
موضوع تخريج قوى عاملة ومهنية جيدة بكفاءة عالمية، ولكن ذات ثقافة وطنية وقومية ملتزمة بقضايا الأمة بالنضال من أجل مواجهة كل نواقص وأخطار ومؤامرات في تلك القضايا، يجب أن يكون موضوع الساعة وموضوع الأولوية القصوى في تخطيط التعليم الجامعي.
أوضاع عالمنا المليئة بالأخطار والتعقيدات والمؤامرات تقتضي إعطاء أهمية كبرى للجانب الثقافي الإنساني في تكوين طلبة الجامعات. من دون ذلك سنظل نخرج ما يشبه الروبوتات القادرة على الاندماج الكفؤ في العمل والمهن، ولكن غير القادرين على تعديل أي مسار خاطئ في تلك الأعمال والمهن.
هذه الحاجة، لجعل التعليم جامعاً للجانبين في الإنسان العربي الخريج، القدرة المهنية العلمية الممتازة والثقافة الوطنية والقومية والإنسانية الملتزمة المناضلة غير الانتهازية، أصبحت حاجة أساسية وجودية في مجتمعات عربية تتعرض هويتها العروبية لأبشع وأخطر المؤامرات الخارجية والداخلية من أجل تمزيقها وإبقائها في عوالم التمزق والضياع والتخلف.
*د. علي محمد فخرو سياسي ومفكر بحريني
(الشروق)