أوروبا.. من ترومان إلى ترامب

0

أوروبا.. من ترومان إلى ترامب

السؤال هو: هل تغيرت الولايات المتحدة أم أن الرئيس وحده الذي تغيّر؟
كان على ترومان لإنفاذ مشروع مارشال بإعادة الحياة إلى أوروبا بعد الحرب أن يتّبع سياسة انفتاح اقتصادي.
التزام ترامب بـ«أميركا أولا» يدفعه لاتباع سياسة الانغلاق على أوروبا وجيران الولايات المتحدة المكسيك وكندا.
لولا «التخويف» من خطر الشيوعية لما أُقر مشروع مارشال إذ جرى تضخيم حجم البعبع الشيوعي لتمرير التحالف الاقتصادي والعسكري مع أوروبا.
* * *
خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية وهي في حالة يرثى لها. كان شتاء 1947 مأساوياً لم تشهد أوروبا مثيلاً له من قبل. كانت دول القارة مهدّمة والمجاعة عامة. أما الاقتصادات فكانت منهارة. وقد وصل التضخم في فرنسا إلى 49.2 بالمائة وتجاوز 62.1 بالمائة في إيطاليا.
أما ألمانيا فلم يترك الحلفاء فيها مدينة إلا ودُمرت ولا مصنعاً إلا ونُسف ولا مزرعة إلا وأُحرقت. لم يكن قد مضى على موت هتلر سوى عامين فقط عندما جرى تقسيم ألمانيا.
ومع ذلك كانت دول الحلفاء تخطط لاستغلال ما يمكن من ثروات ألمانيا الطبيعية (مناجم الرور في غرب ألمانيا التي صادرتها فرنسا) في محاولة يائسة لإعادة التوازن إلى اقتصادها المنهارة.
أما الولايات المتحدة، فكانت مهتمة بعودة جنودها من أوروبا، وتوظيف هزيمة ألمانيا لبلسمة جراح العائلات التي فقدت أبناءها في تلك الحرب.
غير أن التطورات سرعان ما فرضت أولويات أخرى. في مقدمة تلك الأولويات إعادة بناء أوروبا، وتمكينها من أن تقف على رجليها مجدداً للتصدي لمخاطر الزحف الشيوعي من الاتحاد السوفييتي.
وهكذا ولد المشروع الذي يحمل اسم وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت جورج مارشال. وبموجب هذا المشروع، قدمت الولايات المتحدة مساعدات لإعادة بناء الاقتصاديات الأوروبية بين عامي 1948 و1952 بلغت 14.3 مليار دولار. وتعادل قيمة هذا المبلغ في عام 2018 حوالي 130 مليار دولار.
واعتبر الاتحاد السوفييتي «مشروع مارشال» محاولة لإعادة بعث ألمانيا من جديد، بما تمثله من مخاطر بحكم عقليتها العسكرية. لذلك بادر جوزيف ستالين إلى تسريع الهيمنة السوفييتية على دول أوروبا الشرقية وخاصة على القسم الشرقي من ألمانيا.
وردت الولايات المتحدة بإنشاء حلف شمال الأطلسي «الناتو». وكانت الغاية من إقامة الحلف تحقيق ثلاثة أهداف على حد قول الأمين العام الأول للحلف اللورد هاتسنغ. وهذه الأهداف الثلاثة هي: إبعاد الاتحاد السوفييتي، المحافظة على الحضور الأميركي، وضمان استمرار الهزيمة الألمانية.
ساعد ذلك على إعادة بناء أوروبا الجديدة المتمثلة اليوم في الاتحاد الأوروبي الذي كان من آبائه الأولين جان مونيه، رجل الاقتصاد الفرنسي والذي هو نفسه كان وراء الاستيلاء على مناجم الحديد الألمانية بعد الحرب.
أما في شتاء 2017 (وتحديداً في 20 يناير)، فأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سياسة جديدة تقوم على مبدأ «أميركا أولاً».
وبموجب هذا المبدأ الذي يتمسك به رغم المعارضات الأوروبية (وحتى الأميركية أيضاً)، فقد قرر تخفيض التزامات الولايات المتحدة المالية في حلف شمال الأطلسي، كما قرر فرض ضرائب على بعض الصادرات الأوروبية إلى أميركا (الفولاذ مثلاً).
في الأساس لم يكن تمرير مشروع مارشال أمراً سهلاً. فقد ارتفعت أصوات داخل الكونغرس الأميركي وخارجه تعارض المشروع على أساس أن الولايات المتحدة «ليست جمعية خيرية»، وأنها بحاجة إلى الإنماء الداخلي، وهو المنطق الذي يردده اليوم الرئيس ترامب.
ولولا نجاح عملية «التخويف» من خطر الشيوعية، لما أُقر مشروع مارشال، إذ جرى تضخيم حجم البعبع الشيوعي لتمرير التحالف الاقتصادي والعسكري مع أوروبا.
ويحاول اليوم الرئيس ترامب تحجيم هذا البعبع، والتقليل من خطره لتخفيض التزامات الولايات المتحدة تجاه أوروبا، ومن ثم لتوظيف عائدات هذا التخفيض في الاقتصاد الأميركي الداخلي عملاً بشعار «أميركا أولاً».
لكن كما فعل الكرملين في عام 1948 بتنظيم الانقلاب في تشيكوسلوفاكيا، مما عزز المخاوف الأميركية من توسع الشيوعية في أوروبا، كذلك فإن استعادة الاتحاد الروسي لشبه جزيرة القرم من كرواتيا بالقوة العسكرية، عززت من المخاوف الأميركية والأوروبية من تطلعات الكرملين في عهد الرئيس بوتين.
لكن ذلك لم يغير من موقف الرئيس ترامب الذي يجسد شعاره الذي يتمسك به وهو «أميركا أولاً». فهو يرفض أن يستدرج إلى أي شكل من أشكال المواجهة مع الاتحاد الروسي لأن ذلك سيكون على حساب «أميركا أولاً».
في شتاء عام 1947 عندما أقرت الولايات المتحدة مشروع مارشال، كان على رأس الدولة الرئيس هاري ترومان، وكانت تتحلق حوله شخصيات من حجم جورج مارشال، وجورج كينان وويل كلايتون وأدلاي ستيفنسون، وهم من كبار المفكرين وعلماء السياسة.
على نقيض المجموعة المتحلقة اليوم حول الرئيس الحالي ترامب والتي لا تشعر بالاستقرار.. وتعاني عدم ثقافته أو ثقافته المحدودة في القضايا الدولية.
لقد كان على الرئيس ترومان حتى ينفذ التزامه بمشروع مارشال بإعادة الحياة إلى أوروبا بعد الحرب، أن يتّبع سياسة الانفتاح الاقتصادي.
أما الرئيس ترامب، فإن التزامه بشعار «أميركا أولا» يحمله على اتباع سياسة الانغلاق على أوروبا، وحتى على جيران الولايات المتحدة في الجنوب (المكسيك) وفي الشمال (كندا).
من هنا، فالسؤال هو: هل تغيرت الولايات المتحدة أم أن الرئيس وحده الذي تغيّر؟
* محمد السماك كاتب صحفي لبناني

[cov2019]