العراق محاصر وسط خرائط التيه
العراق محاصر وسط خرائط التيه
العراق محاصر ليس بجيرانٍ لا يرغبون به بل بسياساتٍ لا يبدو أن أي حكومة عراقية تستطيع الإفلات من حبلها الخانق.
إيران تتحالف ظاهرياً مع تركيا وتريد بقاء حزب العمال الكردستاني لمشاغلة تركيا به من وقت لآخر كلما دعت الحاجة لذلك.
العراق لا يستطيع أن يخط لنفسه واقعاً يمنحه مناورة ليجد طريقاً يجنبه ضرر مواجهاتٍ بعضها جرى وبعضها يجري التحضير له.
فقدت دول عربية عديدة معظم مقومات وجودها وقوتها بفعل حماقات أنظمتها أو سطوة قوى إقليمية ودولية متحكّمة بالمنطقة بشكل كبير..
وسط هذا المشهد؛ يجد العراق نفسه حائراً بين تلك التحالفات المتغيرة وتلك الحالة السائلة للمنطقة، فلا هو يمتلك القدرة على أن يخط لنفسه واقعاً.
العراق؛ على الأرجح سيدفع مرة أخرى ثمن ارتهانه لإيران.
* * *
تقديم الكاتب الصحفي / اشرف السعدني
تبدو منطقة الشرق الأوسط في حالةٍ سائلة، تشبه، إلى حد بعيد، حالتها عقب الحرب العالمية الأولى، وبوادر انهيار الدولة العثمانية وتقاسم المنطقة وتوزيعها بين الدول المنتصرة، تحديداً بريطانيا وفرنسا.
فعالم اليوم يستعيد كثيرا من تفاصيل عالم الأمس، ولا يبدو أن هناك مجالا أمام أي من الدول للصمود طويلا في مواجهة تلك المتغيرات، خصوصا أن كثيرا من دولنا اليوم تبدو بلا حول ولا قوة!
وذلك بعد أن فقدت الكثير من مقومات وجودها وقوتها، سواء بفعل حماقات أنظمتها أو بسبب سطوة قوى إقليمية ودولية باتت متحكّمة بالمنطقة إلى حد كبير.
وسط هذا المشهد؛ يجد العراق نفسه حائراً بين تلك التحالفات المتغيرة وتلك الحالة السائلة للمنطقة، فلا هو يمتلك القدرة على أن يخط لنفسه واقعاً يمنحه بعض المناورة، ولا هو قادر أن يحسم تحالفاته، ويجد طريقاً يجنبه على الأقل ضرر مواجهاتٍ، بعضها جرى وبعضها الآخر يجري التحضير له.
افتقد العراق، عقب غزوه عام 2003، حاضنته العربية بشكل أثر كثيراً على صنع سياساته. وبدلاً من ذلك، اختارت الحكومات المتعاقبة الإرتماء في الحضن الإيراني، كونه الأكثر تغلغلاً ونفوذاً في العراق الذي تشكل عقب الغزو.
ارتماء لم يكن له أن يحصل لو أن الولايات المتحدة، صاحبة أبشع غزو في القرن الجديد، لم تسمح به، فقد جرى كل شيء على مرأى جنرالات الحرب وقادة السياسة الأميركيين ومسمعهم!
وكأن هذا الذي يُراد له بالضبط، رغم كل الضجة التي تفتعلها واشنطن بين وقت وآخر بسبب ارتماء العراق في الحضن الإيراني. ويجد العراق نفسه اليوم ملزماً بما تلتزم به إيران، راغباً أو مرغماً.
فلا أحد من الحكومات المتعاقبة تمكّن من الإفلات من هذه التبعية، فحتى رئيس الحكومة الحالي، مصطفى الكاظمي، الذي أثار ترشحه للمنصب حفيظة حلفاء إيران في العراق، لا يبدو أنه قادر على إبعاد العراق ولو قليلاً عن خط مسار السياسة الإيرانية.
ولم يعد الاقتراب من العالم العربي بالنسبة للعراق، مجدياً، حتى لو سمحت إيران به، فهو اقتراب من عالم متشظٍ يعيش أتون حروبه الداخلية، وبالتالي ما عاد في الاقتراب من هذا العالم العربي المتفجر كثير نفع ومصلحة ترتجى.
أدخل العراق نفسه مع تركيا في أتون صراعٍ لا يبدو أنه قادر على مواجهته أو احتماله، فتركيا التي تبدو واثقةً من خطواتها السياسية التي أهّلتها لتسرح في مياه المتوسط، وتطل على ليبيا وسورية وشمال العراق، ترغب بعلاقةٍ متميزةٍ مع العراق.
فهو سوق مهم يسيل له لعاب كبريات الشركات، إلا أن ذلك يصطدم بعائق وجود حزب العمال الكردستاني الذي تصفه أنقرة بأنه تنظيم إرهابي.
وهذا الحزب الذي يسيطر على مناطق شاسعة من شمال العراق، ويتخذ منها قاعدة لانطلاق هجماته ضد تركيا، تحوّل إلى عائق كبير أمام تركيا لتعزيز العلاقات مع العراق الذي يبدو غير قادر على طرد هذا الحزب.
ليس لأن بغداد ترغب ببقائه ربما، ولكن لأن إيران التي تتحالف ظاهرياً مع تركيا تريد بقاءه لمشاغلة تركيا به من وقت إلى آخر، كلما دعت الحاجة لذلك.
يمكن القول إن العراق محاصر ليس بجيرانٍ لا يرغبون به، وإنما بسياساتٍ لا يبدو أن هناك قدرة لأي حكومة عراقية على الإفلات من حبلها الخانق!
سياسات تابعة كليا لإيران التي فرضت نفسها وصيةً على أي حكومة تشكل في بغداد، رغم تعالي صيحات ثوار تشرين في بغداد ومدن الجنوب الأخرى الرافضة مثل هذه الوصاية الإيرانية.
ويبرز الحديث، من وقت إلى آخر، عن إمكانية إقامة إقليم سني، بما يماثل الإقليم الكردي، بمعنى أن خريطة التقسيم التي يبدو أنها لم تمزق بعد، جاهزة، خصوصا أن هذه الخارطة ستكون قابلة للتطبيق في اللحظة التي تندفع فيها المنطقة إلى نزاع مسلح، ربما يكون العراق على قائمة ساحاته، بالإضافة إلى لبنان، وربما مناطق أخرى من سورية.
إيران التي تعيش واقعاً اقتصادياً صعباً قد تندفع، في لحظة معينة، باتجاه تصعيد مسلح ضد الولايات المتحدة، حتماً سيكون العراق ساحته المثلى.
وهي ربما تؤجل ذلك بانتظار ما ستسفر عنه انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر المقبل، على أمل أن تنتهي ولاية دونالد ترامب، ويحل محله الديمقراطي جو بايدن الذي سيفتح أمام إيران آفاقاً مغايرة لما تعيشه اليوم؛ بحسب ما تعتقده طهران.
وفي أي حال، أمام العراق خيارات صعبة، فإذا ارتأى الخروج من الجلباب الإيراني سيجد نفسه عارياً بمواجهة مليشيات مسلحة، تدين بالولاء لولي الفقيه، قادرة على أن تحرق الأخضر واليابس، خصوصا أن واشنطن لا يبدو أنها راغبة الآن على الأقل للوقوف بوجه هذه المليشيات.
وستشهد الأيام الماضية واللاحقة مزيداً من الهجمات التي تستهدف الوجود الأميركي في العراق، تشنها المليشيات “الولائية” وسط عجز شبه كامل من حكومة الكاظمي للتصدّي لها، في محاولةٍ إيرانية للتأثير على سير الانتخابات الأميركية لصالح جو بايدن وإحراج ترامب الذي سيفكر ألف مرة قبل الرد على تلك الهجمات، وسط أجواء انتخابية أميركية مشحونة.
العراق؛ على الأرجح سيدفع مرة أخرى ثمن ارتهانه لإيران، ويبدو أن تفاصيل معركة الخروج من الجلباب الإيراني ستبقى رهناً؛ ليس بالانتخابات الأميركية المقبلة، ولا الانتخابات العراقية المبكرة 2021، وإنما بتفاعلات الشارع العراقي وقدرته على تجميع نفسه مرة أخرى، للتظاهر مطلع أكتوبر/ تشرين الأول المقبل؛ الذكرى الأولى لانطلاق ثورته التي ما زالت تمثل رقماً صعباً في رسم مسارات القادم من الأيام.
* إياد الدليمي كاتب صحفي عراقي