زمن الأسئلة

0

زمن الأسئلة

ليس مثل الحرب اندفاعاً نحو الجنون الأعمى وكل فعل فيها يولد نقيضا ثم يستفحل أمر النتائج.
التطور لا يخضع حتماً للإرادة الإنسانية ويعدم قوانينه الموضوعية المستقلة فموضوعية عوامله أمر متقرر بقوة أحكام الأشياء والظواهر.
المستقبل الذي تتغياه الأمم والدول لا يأتي عفواً بل يُصنع صنعا ويقع التخطيط له ويواكب إنجازه القدر الضروري من المتابعة والتصحيح والتدارك.
مع أن الحروب تبدو مستقلة المسار والإيقاع عن إرادة من شنّوها وشاركوا فيها فإنها تخضع بنهاية المطاف لإراداتهم في إنهائها حين تنضج لذلك شروطه السياسية.
ظاهرات تولد أحكامها الموضوعية شبه العمياء لكن قابلة للمراقبة والتدارك والتحكم والاستيعاب والوصول بها للهدف منها ليتبين إمكان إخضاع تطور الظاهرة للإرادة الإنسانية.
الصناعة التي انطلقت من عقيدة إخضاع الطبيعة واستغلالها استمرت تتحرك داخلها لينتهي تطورها العاصف لتدمير البيئة و استلاب الإنسان وتعريض الحياة الإنسانية في الأرض للزوال.
* * *
زمن المتغيرات والصيرورات، الذي نقطع الشوط الابتدائي الأول منه اليوم، هو زمن الأسئلة والمراجعات، أو هكذا يفترض أن تكون العلاقة به؛ لأنه ليس يعلم إلى أين يمكن أن يفضي بالعالم، والإنسانية فيه، إن لم يخضع تطوره للتخطيط والتدبير الجماعي، وإن لم يقع توافق عالمي حول الأهداف الإنسانية المشتركة والجامعة المنتظرة أو المبتغاة من هذا التطور.
القاعدة المألوفة أن المستقبل الذي تتغياه الأمم والدول لا يأتيها عفواً وبالتلقاء، وإنما يُصنع صنعا ويقع التخطيط له، ويواكب إنجازه القدر الضروري من المتابعة والتصحيح والتدارك.
وهكذا يأتي التطور مراقباً ومقترناً بقدر من القصدية ومن تدخل الإرادة الإنسانية في المجرى والمسار على النحو الذي يتولد منه الهدف الإنساني المرغوب والمحسوب.
ليس معنى ذلك أن التطور يخضع حكماً للإرادة الإنسانية ويعدم قوانينه الموضوعية المستقلة؛ إذ موضوعية عوامله أمر متقرر بقوة أحكام الأشياء والظواهر: في الطبيعة كما في العالم الإنساني والتاريخ.
غير أن موضوعيته ليست دائماً حتمية ولا عمياء (وهذا يكون خاصة في التاريخ وعالم العلاقات الإنسانية)، وإنما يتدخل عامل الإرادة الإنسانية في تكييفه وفي توجيه مساره، أو في تعديل اتجاهاته أو تصويب حركته.
ويقع ذلك، أكثر ما يقع، حين يكون التطور ذاك محكوماً في الغالب بهندسة قبلية (تخطيط) تأتي حركته تنفيذاً لها؛ أي خاضعاً لفعل من العقلنة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
لو اكتفينا بمثال واحد للظاهرات الذاهبة في توليد أحكامها الموضوعية، شبه العمياء، ولكن القابلة للمراقبة والتدارك والتحكم وبالتالي للاستيعاب والوصول بها إلى الهدف المتوخّى منها، لتبين معنى إمكان إخضاع تطور الظاهرة لفعل الإرادة الإنسانية.
إنه مثال الحرب. ليس مثل الحرب اندفاعاً نحو الجنون الأعمى. وكل فعل فيها يولد نقيضاً، ثم يستفحل أمر النتائج. ومع أن الحروب تبدو مستقلة المسار والإيقاع عن إرادة من شنّوها وشاركوا فيها، فإنها تخضع (في المطاف الأخير) لإراداتهم في إنهائها حين تنضج لذلك شروطه السياسية.
لكن صوراً أخرى من التطور قد تُفصح عن فعل القوانين العمياء فيه، هذه التي تصبح مع الزمن، عصية على الاحتواء والاستيعاب. وليست حتميتها العمياء التي تبدو بها، خارجة عن الإرادة كلية ولا قِبل لهذه بها، ولكن إحجام الإرادة الإنسانية عن التدخل في مجرى ذلك التطور وتكييفه وتصحيح مساره، هو ما يأخذه إلى تلك الحتمية التي تفرض أحكامها ومشكلاتها.

 

الصناعة مثلاً، حلقة متقدمة في التطور الإنساني، وفرت من الحاجيات والأدوات والإمكانيات لحياة الناس ما لم توفره الزراعة؛ بل بها أعيدت تغذية الزراعة والتجارة.

لكن الصناعة التي انطلقت من عقيدة إخضاع الطبيعة وبالتالي استغلالها، استمرت تتحرك من داخل هذه العقيدة لينتهي بها مطاف تطورها العاصف إلى تدمير البيئة وتجفيف ينابيعها ومواردها، وبالتالي إلى استلاب الإنسان تجاه الصناعة والتقنية. وهذا ما قاد في النهاية، إلى تعريض الحياة الإنسانية في الأرض لخطر الزوال.

 

قل ذلك عن التقنية والتقانة (التكنولوجيا). مثلت هذه، غب ظهورها، ثورة في مضمار الإنتاج والحياة، فاختزلت الزمن واختصرت الجهد (الذي كان بدنياً)، وسهلت العسير، وجعلت الحياة أيسر وأرغد.

لكنها في الوقت عينه، شيّأت الإنسان، وجردت الفعل الإنساني من كل مضمون «إنسانوي»؛ بل حولت الإنسان إلى آلة أو إلى عبد تابع للآلة، فضلاً عن تنميطها فكره وذوقه وقيمه، دون أن نتحدث عن إلغائها للعمل الإنساني والاعتياض عنه بالعمل الآلي، ونواتج ذلك من تبطيل وتهميش اجتماعيين وتعطيل لطاقات الإبداع الإنساني.

 

هذه مجرد أمثلة من أخرى كثيرة عن أشكال من التطور المبرمج ذاتياً، غير الخاضع للغاية الإنسانية الخضوع الذي يفرض التدخل الرقابي والتصويبي القمين ببسط سلطة الإرادة الإنسانية على تطور هو في الأساس من صميم عمل الإنسان.

لا جرم إذن أن تطوراً من هذا النوع المنفلت العقال، ينبغي أن يوضع موضع مساءلة نقدية عميقة. ينبغي مراجعة العقائد السياسية والاقتصادية والثقافية المؤسسة لكل المسار الإنساني الحديث والمعاصر، والتي قادت إلى هذا المنوال الاجتماعي الاقتصادي وإلى هذا النظام السياسي السائدين في العالم، وما استجراه من مشكلات وأزمات وحروب وتفاوتات صارخة بين البشر.

لقد شرب هذا النظام وذلك المنوال (النموذج) كأسهما الأخيرة بمناسبة جائحة كورونا التي خرّا عاجزين أمامها. إنها إذن، لحظة الأسئلة الكبرى العميقة.. لحظة النقد.

 

* د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي

(الخليج)

[cov2019]