عشر سنوات عجاف على انطلاق شرارة الربيع العربي
عشر سنوات عجاف على انطلاق شرارة الربيع العربي
عشر سنوات عجاف
الربيع لم ينته ولن ينتهي بل يظل مخيّما على ذهنية الجميع وجزءا من صناعة حياة الأمة ومستقبلها سواء اعتُرف به أو اُنكر.
“إذا تبدّلت الأحوال جملةً، فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله، وتحوّل العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث”.
لم يعد بوسع دولة فعل ما يريد تحت ستار الكتمان والسّرية فقد مزّقت سهولة التواصل وحرية التعبير الجبرية الجدران والأستار!
بعد مضي عشر من السنوات العجاف على الأغلب سيتلوهن عشرٌ سمان وهذا سبب كاف لعودة الربيع ربما بشكل إبداعي آخر يفاجئ الجميع.
انضم أصحاب نظرية المؤامرة لمعسكر يائسين بلغوا التيقن من أن ما جرى كان محض مؤامرةٍ لتخريب الوطن العربي وهؤلاء جزءٌ من الثورة المضادّة!
* * *
تقديم الكاتب اشرف السعدنى
لا يمكن أن تمر ذكرى مرور عشر سنوات على انطلاق شرارة الربيع العربي من دون أن تحظى مناسبةٌ كهذه باهتمام المراقبين والباحثين والكتاب، فما بالك برجال المخابرات والمستشرفين للمستقبل المنشغلين بقراءة طالع المستقبل؟
رصد سريع لاهتمامات هؤلاء وأولئك يُظهر أن هناك شبه اتفاق على أن موجة الربيع العربي الثانية أو الثالثة قادمة لا محالة، باعتبار أن ما شهدته السودان والجزائر ولبنان منذ زمن قريب كان بمثابة الموجة الثانية للربيع.
لكن الخلاف هنا متى وما هو مآلها إن تمّت، خصوصا وأن الموجتين، الأولى والثانية، تمت عملية امتصاص متقنة لهما، وتحويل نتائجهما إلى الاتجاه المعاكس تماما، بل ربما أوصلت هذه العملية التي يروق لبعضهم تسميتها “الثورة المضادّة” إلى حالةٍ أقرب إلى اليأس لدى بعضهم من أي تغيير وشيك في المشهد العربي “الفوضوي”.
ناهيك عن انضمام أصحاب نظرية المؤامرة إلى معسكر اليائسين الذين بلغوا حد التيقن من أن ما جرى كان محض مؤامرةٍ لتخريب الوطن العربي، وهؤلاء تحديدا هم جزءٌ من الثورة المضادّة، سواء انضموا لهذا المعسكر بوعي أو بغيره.
فهم يُسهمون مع غيرهم من “المتآمرين” المنظمين على الربيع في إشاعة حالةٍ من اليأس من وقوع أي تغيير إيجابي في حال الأمة. .. بين يدي الذكرى العاشرة لاندلاع الربيع، ثمّة بعض الإضاءات والشذرات تنثال على الخاطر، يمكن عرضها في نقاط سريعة.
يقول ابن خلدون في مقدمته: “وإذا تبدّلت الأحوال جملةً، فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله، وتحوّل العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث”.
ونحسب أن الأحوال، فعلاً، تبدّلت في مجملها إبّان ذروة الربيع العربي، وأفرزت ظاهرةً غير مسبوقة، حيث أصبح للجماهير كلمة، ولوقفتها معنى، وقد كانت مجرّد آحاد لها قيمة عددية بلا وزن نوعي.
أما اليوم فشأنها مختلف، حيث غابت العبارات الانهزامية الشهيرة، مثل: “وأنا مالي”، أو: “ماذا أستطيع أن أعمل”، أو “حط راسك بين الروس وقل يا قطاع الروس”، وسوى ذلك من مفاهيم انهزامية، استوطنت العقل الجمعي، فشلّت قدرة الجماعة على العمل، وهذه بذرة “خطرة”، فليس في وسع أحد أن يطفئ الجمرة بمحاولة سحقها بقدميه.
وتلك أهم مستخلصات ثورات الربيع العربي وعبرها. ويبدو هذا في التفاعل الجماهيري غير المسبوق مع الحدث اليومي، عبر منصّات التواصل الاجتماعي التي نافست الخبر في حضورها اللحظي، فلا يكاد حدث صغير أو كبير يمرّ من دون أن يكون لجماهير فيسبوك أو تويتر أو حتى إنستغرام، وغيره، دور ما في تقليب الحدث والتفاعل معه، وتحليله.
ولم يعد في وسع بلد ما أن يفعل ما يريد تحت ستار الكتمان والسرية، فقد مزّقت سهولة التواصل، وحرية التعبير الجبرية، كل الجدران والأستار، وفتحت المجال لحرية تداول المعلومة.
وهذا يعني ببساطةٍ أن الجمهور الذي كان غافلا عما يجري حوله أصبح طرفا في معادلة الفعل، حتى أصبح هذ الأمر أحد المفاعيل الرئيسة في صناعة الحدث، صغر أم كبر.
يؤيد مقولة ابن خلدون ما قاله الخبير الصهيوني في شؤون الجماعات المسلحة، بوعاز غانور، الرئيس التنفيذي لمعهد مكافحة “الإرهاب” في مركز الدراسات متعدّدة الاختصاصات بهرتسليا، حين اعتبر ثورات الربيع العربي بمثابة “تغيرات كونية”، رغم أنها وقعت في العالم العربي.
ذلك أن تأثيرها امتدّ إلى معظم أجزاء الكرة الأرضية، ولسنا هنا في معرض رصد تلك التأثيرات في كل البلاد العربية والأجنبية، فهذا مقامه دراسةُ معمقةٌ وتوثيقيةُ مفصلةُ، ولكنها، حسب ما يقول غانور، شكّلت تحدّيا أمنيا رئيسيا لإسرائيل وغيرها من الدول الغربية الحليفة.
ويكفي هنا أن نتذكّر أن الشباب في الولايات المتحدة أقاموا “ميدان تحريرهم” على غرار ميدان التحرير في قلب القاهرة، واشتعلت شوارع تل أبيب بمظاهراتٍ مستلهمة ثورات الربيع، مطالبة بالعدالة الاجتماعية.
وامتد تأثير الثورات إلى إسبانيا والصين وبعض البلاد الأوروبية، حتى أن دولا آسيوية وضعت عراقيل في عودة بعض رعاياها إلى أرض الوطن إبّان الثورات العربية، خوفا من نقل “فيروس” الثورة. وما زلنا نذكر مقولة الرئيس الأميركي السابق، أوباما، حين قال: “يجب أن نربّي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر”.
ليس هذا فحسب، بل امتد تأثيرها لهدم بعض المفاهيم والنظريات المستقرة في الدراسات الجيوسياسية والاجتماعية، فقد بات الدارسون يبحثون في الظاهرة الثورية، باعتبارها إحدى الظواهر الأكثر تفرّدا في القرن الحادي والعشرين.
كل ما جرى بعد إخماد نار الثورات العربية، وبلا أي مبالغة، كان يستهدف وأدها، وسحقها، واجتثاثها من جذورها، وبالأساليب القديمة نفسها في التغييب والقمع، مع بقاء أسباب الربيع، بل تعمقها أكثر، فما حرّك الناس قبل عقد كامل من أزمات واختناقات وانقلابات وكوارث زاد أكثر، وتردّت أوضاع البلاد والعباد على نحو مضاعف، بل أكثر وساهمت الجائحة في مفاقمة الوضع.
وهذا يعني أن سبب الربيع لم يزل قائما، إنما هو كالبذرة في الأرض، تتحيّن الفرصة والجو المناسب كي تنمو، وتشق التربة، باحثة برأسها عن الشمس، وتلك حقيقةٌ يدركها باحثون كثيرون، وصناع القرار.
وبالفعل، بدأت بعض الأقطار تنتج ربيعها بنفسها، عبر اشتراطاتٍ ومواصفاتٍ معينة، كي يكون تحت السيطرة، وفي إطار الممكن، أملا في استبداله بالربيع الشعبي، المنفلت من عقال الضبط والربط!
وهذا معنى آخر من معاني القول، أن الربيع لم ينته ولن ينتهي، بل سيظل مخيّما على ذهنية الجميع، وسيبقى جزءا من صناعة حياة هذه الأمة ومستقبلها، سواء اعتُرف به أو أنكر.
ثورات الربيع العربي لم تحقق هدفها المعلن في العدالة والكرامة والازدهار، بل ربما زادت الأمور سوءا بعد مضي عقد من السنوات العجاف، على الأغلب سيتلوهن عشرٌ سمان.
وهذا سبب كاف لعودة الربيع، ربما بشكل إبداعي آخر ربما يفاجئ الجميع، حتى بيوتات الخبرة الاستخبارية الأشد مراقبةً واهتماما بما يجري داخل البيت العربي.
* حلمي الأسمر كاتب صحفي من الأردن